كلّ هؤلاء اللصوص في النكبة
ذكرى نكبة فلسطين الخامسة والسبعون مناسبةٌ لإضاءاتٍ على كل صنوف النهب الذي اقترفته عصابات الصهاينة وجيش دولة المحتلين، ولا يجوز أن تنحبس في موسميةٍ سنويةٍ أو في اهتمامات مؤرّخين وأكاديميين وناشطين، وإنما يلزم أن تظلّ في مساحاتٍ لها مستحقّةٍ في البال والوجدان. ومن ذلك النهب المتعدّد الذي طال غير الأرض والبيوت والحقول، ودلّ على خسّة لصوصٍ من نوع السفلة لا ريب، سرّاق كلّ شيء، فناجين القهوة مثلا. وطيّبٌ أن دراساتٍ وأبحاثا وكتبا صارت تتوالى أخيرا تنْهمّ بهذا كلّه، بالممتلكات الشخصية والعائلية والمنزلية، وبالإرث الثقافي الفلسطيني. لافتٌ أن مؤلفي أغلبها إسرائيليون، بالنظر إلى الإمكانات الميسورة لهم للوصول إلى أراشيف مغلقة (نوعا ما) في دولة الاحتلال. وحسنا أن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) يسّر لنا، قرّاء العربية، ثلاثةً منها. جديدُها (2023) كتاب آدم راز، "نهب الممتلكات العربية في حرب 1948"، وأصدره صاحبُه في 2020، ونقله إلى العربية أمير مخوّل، وحرّره أنطوان شلحت. وفي 2018 أصدر المركز الكتاب المنشور بالعبرية في 2009 "لمعاينة الجمهور ... الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية"، تأليف رونة سيلع وإعدادها وترجمة علاء حليحل الذي أنجز ترجمةَ كتابٍ من الحقل نفسِه "بطاقة ملكية ... تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية" للباحث غيش عميت، وصدر عن المركز (والدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان) في 2015. ولا يُغفل كتاب الفلسطيني بشّار شمّوط "الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع ..." (مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2020)، لم تنحصر مشاغله في النهب إبّان النكبة، وإنما جال في الذي قبلها وبعدها، واهتمّ بضياع أرشيفٍ كثيرٍ ومتنوّعٍ من الموادّ الفيلمية والمسجّلة والمصوّرة، وتوزّع شتاته، وتطلّع إلى جهودٍ من أجل استعادة هذا الأرشيف وتصنيفه ورقمنته وتيسيره للجمهور.
ثمّة أهميةٌ خاصةٌ لتعريف العموم الفلسطيني، والعربي، بالعدوان الفادح، والمخطّط له، الذي اقترفه الصهاينة، على ذاكرة الفلسطينيين وموروثهم، وإرثهم، في أثناء جريمة الطرد والقتل (70 مجزرة معلومة) في غضون النكبة. ولئن تُعدّ لدراسات عادل منّاع ونظمي الجعبة وعصام نصّار وسليم تماري وغيرهم بشأن الأرشيفات واليوميات والمنهوبات والمسروقات، والإرث المصوّر، قيمتُها في هذا، سيّما من بوابات ووثائق فلسطينية غالبا، فإن لكتب الإسرائيليين الثلاثة أهميّتها النوعية، في تظهير اتّساع مساحات النهب وتنويعاته، يضيف إليهم مجهود بشّار شمّوط درسا فلسطينيا جوهريا في إلحاحِه على توحيد الجهود، وربط خبراتٍ فلسطينيةٍ وعربيةٍ ودوليةٍ في عدّة مجالات، منها الفنون والتاريخ الثقافي، وتقنيات الصوت والصورة، وتقنيات المعلومات، والقانون والسياسة، لأن هذا الموضوع ليس مجرّد تحويلٍ رقميٍّ لمواد ثقافية مرئية ومسموعة ومهمّة للذاكرة الفلسطينية وحسب، بل هو قائمٌ أيضا في ظل الصراع في الشرق الأوسط.
يكتب أنطوان شلحت في مقدّمة كتاب آدم راز الذي لا يرى نكبةً حدثت في 1948، وإنما "حرب استقلال"، إن السماح (الرسمي) الذي أجازه وشجّعه بن غوريون وشركاؤه بعمليات النهب الفردية في ذلك العام تجسيدٌ لنهج سياسيٍّ "سعى لكي تكون أكثرية الجمهور اليهودي ضالعةً في السياسة الملزمة بتفريغ البلد من سكّانها العرب". وبذلك لا يصير مُستغرَبا ما يوفّره هذا الباحث الذي لا يرى الحركة الصهيونية حركة نهبٍ عن سرقة سجاجيد وبطاطين وأدوات طعام ومكتباتٍ شخصيةٍ ومجوهراتٍ وتحف وثلاجاتٍ وسياراتٍ وجلودٍ وأحذية. ويرد في الكتاب إن وزيرا (لشؤون الأقليات!) قال إنه اتضح إن معظم اليهود لصوص. وقال أحد السرّاق في القدس إن اليهود راكموا غنائم النهب في أكوام، وواصلوا السطو مثل الفئران المخدّرة.
يزوّدك كتاب رونة سيلع بما اتّبعته أجهزة عسكرية إسرائيلية في جمع مواد ومعارف ووثائق مصوّرة وبصرية وتسجيلاتٍ مسموعة، وحفظها و"إدارتها إدارة كولونيالية"، بتعبير الباحثة النشطة التي واصلت، بعد كتابها الذي ضمّ صورا من المنهوبات المحفوظة في وزارة الدفاع، الكشف عن مثل تلك المواد، الفيلمية مثلا، وأُخِذت "غنائم". ومن ذلك ما أخبَرنا به، لاحقا، تقريرٌ في صحيفة هآرتس، إن في مخازن الجيش 83 ألف فيلم فلسطيني، وأكثر من مليوني صورة فوتوغرافية، و69 ألف تسجيل صوتي. وأيضا سرق اللصوص في عصابات الصهاينة من المكتبات الفلسطينية الخاصة، من القدس غالبا، عشرات آلاف الكتب، لتزيد المكتبة الوطنية الإسرائيلية مخزونَها، يبسط غيش عميت تفاصيل مذهلة، موثّقة بشهادات واعترافات. ...
سرقوا كلّ شيء، إذن، مع الأرض العائدة يوما.