كلّ عام وأنتم بخير

29 ديسمبر 2024

(محمد الحاج)

+ الخط -

اعتاد العرب أن يطلقوا على الأعوام أسماء مختلفة، تُطابِق ما شهدوه فيها من أحداث وجوائح. تحدّثوا عن عام الجراد سنة ثمانٍ من الهجرة، ولا أدري ماذا كانوا يقولون لو شهدوا 2024، ورأوا "جرادها المعدنيّ" المحمّل بالقنابل الفوسفورية والعنقوديّة والخارقة للتحصينات؟ تحدّثوا عن عام الحزن سنة عشرٍ من الهجرة، وهي التي مات فيها أبو طالب، وخديجة. ولا أدري ماذا كانوا يقولون لو عاشوا معنا هول 2024، حين توحّش الإنسان بقدْرٍ غير مسبوق، واخترق القتلُ جدارَ الموت، بأسرع ممّا تخترق الطائرات جدار الصوت؟
تحدّث العرب عن عام الرمادة، وكان سنة 18 من الهجرة، حين أصاب الناس قحطٌ، حتى صارت وجوههم في لون الرماد من الجوع، وقيل: "كانت الريح تسفي تراباً كالرماد لشدّة يبس الأرض". كما تحدّثوا عن عام الرعاف، وكان سنة 24 من الهجرة، وسمّي بذلك لكثرة ما أصاب الناس فيه من الرعاف. وعام الجحاف، حين وقع بمكة سيلٌ عظيم ذهب بالإبل وعليها الحمول. فهل نرى في تلك التسميات ما يصلح لعامنا المنقضي هذا، بما شهده من ضحايا توحّش الإنسان وفتكه بأخيه الإنسان، فضلاً عن ضحايا الجوائح وجوعى المجاعات، ومشرّدي الزلازل والأعاصير والخيبات؟
تحدّث العرب عن عام الفقهاء، وفيه قتل الحجّاجُ بن يوسف الثقفي سعيد بن جبير. فهل نسمّي 2024 "عام الزعماء"، أم عام "العلماء"، أم "عام الشعراء"، وهو الذي شهد رحيل عشرات منهم، بعضهم حتف أنفه، وبعضهم في حفلات صيد البشر، تحت مسمّى "الدفاع عن النفس"، الشعار الذي قُتِل تحت لافتته، في غزّة وحدها، حسب منظّمة صحافيّون بلا حدود، ما يناهز 150 صحافيّاً؟
كانت 2024 سنةً كبيسة حقّاً. والسنة الكبيسة هي تلك الزائرة الثقيلة التي تأتي كلّ أربع سنوات، مُحمّلةً بيومٍ إضافيٍّ لا نعرف ماذا نفعل به (!) كأنّ العالم لم يشبع من أيّام السداد، والفواتير، والامتحانات، والمحن، وغيرها. فجاءت السنة الكبيسة لتقول: "ها هو يومٌ إضافيٌّ للمعاناة".
لكنّ هذه التسمية لا تفي سنةَ 2024 حقّها. لقد كانت أكثر من كبيسة. إلّا إذا ذهبنا بالمعنى إلى وجوه أخرى من دلالات الكبس المختلفة، مثل قولهم كبَسَ البئر: رمَدَها وطَمَّها بالتراب، أو قولهم كَبَس على فلان، هجمَ عليه واقتحمه واحتاط به. والحقّ أنّ هذا العام فعَلَ بنا هذا كلّه وأكثر. لقد طمَّنا طمّاً، وهجم علينا، واقتحمنا، وتركنا فريسةَ الكوابيس. وعبثاً نصرخ في اتّجاه أصحاب الضمير الحيّ، أو بقيّته الباقية، إذ يبدو أنّ الضمير كبيس هو الآخر، ولد في 29 من شهر فبراير/ شباط، لذلك يختفي يومُ مولده ثلاثة أعوام، فإذا دارت الدائرة وظهر في العام الرابع، تكفّلَت به الحكومات وتسلّمتهُ ذئابها البشريّة.
اقترح كاتب هذه السطور قبل عشرين عاماً تسميةً جديدةً "العام النسيء". لم يكن العرب قد تحدثوا عن "النسيء" إلّا نسبةً إلى الشهور. كانوا يعظّمون الأشهر الحُرم الأربعة، ويتحرّجون فيها من القتال، فإذا قاتلوا في شهرٍ حرامٍ حرّمُوا مكانه شهراً من أشهر الحلّ، وقالوا: نسيء الشهر. وأوّل من نسأ الشهور على العرب وأحلّ منها ما أحلّ، وحرّم ما حرّم، القلمس، ثمّ قام بعده نسله، فكان يقف على جملٍ بمنى، قائلاً بأعلى صوته: "اللهمّ إني لا أخاف ولا أعاف، ولا مردّ لما قضيت! اللهمّ إني أحللت شهر كذا (ويذكر شهراً من الأشهر الحُرم وقع اتفاقهم على شنّ الغارات فيه)، وأنسأتُهُ إلى العام القابل (أي أخّرت تحريمه)، وحرّمتُ مكانه شهر كذا من الأشهر البواقي...". وكانوا يحلّون ما أحلّ ويحرّمون ما حرّم. أمّا في عامنا هذا، وقبالة ما تعرّضنا له من استباحة وعربدة واستبداد، يبدو أنّنا لم نعد من المنسئين، ولن نجد لنا مكاناً شاغراً في مشهد "النَسَأة الجُدُد".
ماذا نسمّي هذه العام إذاً؟ ماذا نسمّي هذا الذي لا يُسمّى؟... ليكن عام الأمل على الرغم من كلّ المُحبِطات. وكما قلتُ ذات عامٍ شبيه: كلّما أطلقوا علينا المُحبِطات، أطلقْنا عليهم الأمل، أمَلٌ يقف كُلّما أُسقِط، يتحرّر كلّما حُوصر، يُبعَث كلّما قُتِل أو شُبِّه لهم! وإذا كان هذا الأمل محتاجاً إلى جذور يرضع منها، فلنرضعه من نقيضه. قال ريتسوس: "ولي أمل لا يتزعزع لأنّه راسخ في اليأس". كلّ عام وأنتم بخير.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.