إضرابُ الموتى!

08 ديسمبر 2024

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -

ما إن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، يوم 21 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، مذكّرتَي اعتقال، بحقّ رئيس وزراء الكيان ووزير دفاعه السابق، حتى انتفض نتنياهو، متّهِماً المحكمة بمعاداة السامية، مطلِقاً بياناً ناريّاً اعتبر فيه نفسَهُ ضحيّةَ محاكمة دريفوس جديدة! ولعلّك لا تحتاج إلى خيال واسع، كي تتصوّر أنّ الخبرَ طوى الكوكبَ، حتى جاء دريفوس في قبره، ففزع فيه بآلامه إلى الغضب، وضرَبَ عظْماً بعظْم، صارخاً في غيهبه السحيق: أين تهرُب بعقلك كي لا ينفجر؟ أين تهرُب بمنطقك كي لا يتبخّر؟ ولكن لماذا الهرب؟ عليك أن تقاوم. عليك بمزيدٍ من المقاومة، حتى حين يجري على لسانك قولهم: "فلان يتقلّب في قبره"، على سبيل المجاز، كنايةً عن ضيق المرء بما لا يُطاق من الفظاعة والأراجيف، كأن يبيد باسم الدفاع عن النفس، أو يستبدّ باسم الدفاع عن الشعب، أو يُقارن نفسَه بأيّوب في الصبر، ولقمان في الحكمة، وزرقاء اليمامة في البصر، بينما هو لا يساوي قلامة ظفْر من هؤلاء، يهزمه عرقوبٌ في إخلاف المواعيد، وهبنّقة في الحمق، ويهوذا في الخيانة.
ولعلّك لا تحتاج إلى خيال مجنّح، كي تتصوّر أنّ دريفوس لم يكتفِ بالتقلّب في قبره، بل غادره هاتفاً: لقد جاوز الظالمون المدى في إهانتنا بالتشبّه بنا، بينما هم يُمعنون في الفساد والاستبداد والتدمير والقتل والإبادة. ثمّ إنّك قد تراه ينجح في إخراج زميلاته وزملائه من تحت الأرض، أو من وراء الوراء، في مظاهرة صاخبة، سرعان ما يلتحق بها الجماد والنبات والحيوان، مثل طواحين دون كيشوت، وعشبة جلجامش، وحصان طروادة، وحمار توفيق الحكيم، والحمار الذهبيّ، (أوّل رواية في التاريخ وصلت إلينا كاملة)، وكذلك الذئب البريء من دم يوسف، ومعه نسله من ذئاب الجيل الحالي بالكامل.
ولعلّك ترى الجماعة تتّفق على أن الموقف لا يحتمل الصمت أكثر، فتقرّر تكوين لجنةٍ تضمّ جميع الرموز التاريخية والأخلاقية التي أُسيء استخدامها. ومعها شخصيات أخرى "اعتباريّة"، مثل سقراط، الذي يقف في الشارع قائلاً: "ماذا تريدونني أن أعلّمهم؟ إنّهم لا يحبّونني". ولعلّ الرموز تختار ليلة بلا قمر، كي تخرج، حُشوداً من المقابر، بينما ترفرف أعلى الجميع لافتة مكتوب عليها: الصبرُ طاقةٌ قابلة للنفاد. كفّوا عن استغلال أيّوب. تليها لافتة أخرى (لعلّها لحصان طروادة)، مكتوب عليها: كلّكم أحصنة طروادة.
وقد ترى الموكب يسير في الشوارع، بينما السكان مندهشون. كيف لا وهذه رموزهم الأخلاقية والتاريخية تحتجّ بدلاً منهم، وكانوا يظنّونها ماتت واندثرت مع اندثار القيم. ولك أن تتصوّر كيف تتفانى وسائل الإعلام في نسبة رموز المظاهرة إلى متآمري الداخل والخارج. ولعلّك تسير في المظاهرة، فإذا أمامك نيرون يوزّع أعواد الثقاب على الجلّادين، قائلاً: إذا أردتم إحراق شيء فأحرقوا أكاذيبكم. بينما يبدو من خلفه الذئب (لم يكن معروفاً بميله إلى العمل السياسي) رافعاً لافتة كُتِب عليها: براءتي من دم يوسف ليست صكّ غفران لأحد. دمكم ليس على فَروي. وقد تمرّ المسيرة أمام سفارة دولة ديمقراطيّة، معروفة بتصدير الأسلحة إلى الديكتاتوريّات، فيهتف مسؤولها من الشرفة: عاش العدل. فيصرخ الشابّي: "لا عدل إلّا إن تعادلت القوى"، ويهتف نيرودا: "الإنسان هو العقوبة التي فرضتها الأرض على نفسها".
وقد ترى زُولا يتقدّم الصفوف أخيراً، ليقول: الحياة رموز ونحن رموز البشريّة، من دوننا لا حياة. الأحياء الذين تموت فيهم رموزهم، موتى، لكنّهم آخر من يعلم. على الرموز أن تبقى حيّة كي لا تصبح خِرَقاً تستر عورات الأحياء. قرّرنا الدخول في إضرابٍ عن الموت، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
وقد تبحث لفكرتك هذه عن سابقةٍ في الأدب، فيُعييك الأمر، باستثناء قصيدة لك قديمةٍ، أو عملٍ لكاتب فرنسيّ، تذكره من باب الإفراط في الأمانة (كريزوستوم غوريو، من مواليد 1974)، يتحدّث عن الموت لا عن الموتى. ولعلّك تستملح شطْحَتَكَ وتراها جديرة بالظهور في رواية أو فيلم، لكنّك "صفرٌ على الشمال" في هذه الضروب من الفنّ. ليس لك والحال تلك إلّا أن تتبرّع بفكرتك لمن يقدر من قرّائك على "ترجمتها فنيّاً". وليس بعيداً أن يستولي أحدهم عليها من دون حتّى أن يذكر اسمك. وماذا في ذلك؟ لقد اعتدتَ، وأنت العربيُّ، أن تُنتَهكَ حقوقُك، حتى بتّ تستغرب أن يحدث لك العكس.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.