كتب جهاد هديب ألمه ..

28 أكتوبر 2016
+ الخط -
أصاب ناقد السينما، بشار إبراهيم، كثيراً، في تدوينته الحاذقة إن نصوص الشاعر الراحل، جهاد هديب، "يوميات المستشفى" التي نشرها، أخيراً، موقع "ضفة ثالثة" الثقافي، تفتح باباً واسعاً في عالم الكتابة العربية، وهي "نصوص تحكي يوميات المرض بلغة الشاعر في قوته، والإنسان في ضعفه، والمريض في أمله". وإذ يكتب بشار إنه ينبغي لها "أن تُقرأ وتُناقش.. ويُبنى عليها"، فإن أول ما يمكن قوله بشأنها إنها، على قصرِها، مثقلةٌ بقوة إيحاءٍ كبيرة، وإنه لا تزيّد في اعتبارها إضافةً نوعيةً إلى النصوص الأدبية، السردية والشعرية، القليلة، بل النادرة في الأدب العربي (والعالمي)، التي انشغلت بمناوشة الموت على سرير المرض، وذهبت إلى اليومي والتذكّر والحلمي، والخاص في جوانيّات الذات، في أثناء مغالبة الألم، أو محاورته، أو الاحتيال عليه. هنا، تعد "جدارية" محمود درويش قصيدةً عالية القيمة، في هذا كله، وغيره. ولكتاب عبده وازن "قلب مفتوح" جدارتُه في أنه مفتوحٌ هو أيضاً على ما يتيحه سرد الذات بحريةٍ في الإتيان على كل شيء، الخاص في غرفة العمليات، والعام في خارجها، وعلى استدعاءٍ وفير من سيرة الطفولة وما بعدها، مع مقادير من "الاعتراف" في أثنائها. ولكتاب جمال الغيطاني "يوميات القلب المفتوح" أهميته في تدوين ما يطرأ على البال والمدارك والذات والمشاعر من حكاياتٍ وأشواق، ومن "وساوس" أيضاً في مستشفى أميركي. كتبت هذه الأعمال الثلاثة، بعد أن نجا كتّابها، وسلموا، بعد عملياتٍ جراحيةٍ، وتبدو نصوصاً أتاح المرض، أو واقعة التمدّد على سرير المستشفى، كتابتها، للتعبير عن هذه التجربة بروحٍ تستعيد الحياة في خصومةٍ مع الموت. .. ألم يكتب درويش في جداريته إن الفنون جميعها هزمت الموت؟ 

كتب جهاد هديب يومياته هذه، ربما برغبةٍ في اختبار لياقته على الكتابة، وهو في غضون محنةٍ باغتَتْه، وجعلته يُراجع المستشفى، لفحوصٍ وعملياتٍ واختبارات، ويمكث فيه أياما، ثم يغادره، ثم يعود، وهو المصاب بسرطان الحنجرة... ذلك كله، قبل أن يشتدّ المرض الغادر، وتمتنع قدرة جهاد على الكتابة، وعلى تدوين ما يراه في دواخله، وفي المستشفى نفسه، وفي المنزل، أي قبل أن يقترب الموت، عندما تفشّى السرطان في البدن، ويرحل جهاد، تاركاً، على شاشة الكمبيوتر وبعض الأوراق، ما آل إلى "ضفة ثالثة"، وقرأناه، نحن أصدقاؤه وغير أصدقائه، بمقادير من الشجو، وبمحبةٍ مضاعفةٍ لجهاد الذي بدا على أبدع لياقةٍ في كتابته نصوصه هذه، حيث اللغة الموحية، والسردية اللينة، واتقان العبارة التي لم يشوّش الألم على حرفٍ فيها.
يكتب في البداية، إنه خائفٌ، بل وخائفٌ بحق.. خائفٌ لأنه لن يعود قادراً على مجاراة الألم.. بدا صريحاً وشجاعاً في صراحته، فلم يستدعِ تلك البطولة الإنشائية إياها عن الكتابة صيغةً لتحدّي الألم وهزيمته. لا شيء من هذا عند جهاد هديب. في ورقةٍ أخيرةٍ من هذه النصوص، يخبر (من؟) بأن الكتابة باتت أكثر عُسراً من قبل، وبأنه ما عاد قادراً على التركيز في التفكير بفكرةٍ بحدّ ذاتها. .. "يااااااااااه، أين رأسي، أريد أن أدفنه في صخرةٍ وأنام". .."أصبحتُ أحبُّ كثيراً الجلوس تحت أشعة الشمس. حدّقت في عينها مرّة، فاستحالت الدنيا إلى خضراء مقيتة".. يكتب جهاد أيضا عن الأطباء والممرضين، وعن تفاصيل في غرفة العمليات الزرقاء، عن شاشة التلفزيون قدّامه في حجرته في المستشفى. لا أظن أن قصيدة أمل دنقل "أوراق الغرفة رقم 8" كانت في بال صديقي الأحبّ، وهو يكتب، وهو يحدّث نفسه، عن هذا كله. لم يُتَح له أن يفعل كما سعدالله ونوس الذي كان، فعلاً، يقاوم المرض (سرطان الحنجرة أيضا)، في فترةٍ طالت، بكتابة مسرحيات ("الأيام المخمورة" إحداها) واستعاداتٍ من الذاكرة. أراد جهاد أن يظلّ على بساطته، أن ينتقي مما يهبّ على باله فيكتبه. وهنا أظن أن الأقرب إلى صنيعه هذا ما كتبه الكاتب والصحافي الإنكليزي، كريستوفر هيتشنز، في يوميات اقتراب الموت منه، إبّان مرضه (سرطان المريء)، عن حرمانه من الكلام في الأثناء، ووجد في حاله هذا "استئصالاً لجزءٍ من شخصيته". وجهاد يكتب "كنت قد فقدت الكلام أيضاً. أتذكّر أنني لم أسمع صوتي منذ أسبوع على الأرجح"... ثم يكتب "ما أزال أشعر بأنني بهيمة، بالكاد أسمع، وأبتسم كأحمق".
يكتمل، بعد أيام، عامٌ على سفر جهاد هديب إلى هناك.. آثر قبل أن يغادر أن يحكي لنا بعض ألمه.
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.