كتاب السفر... كتاب مسافر

11 سبتمبر 2023

(ريانون ألبرز)

+ الخط -

يمكن أن يحمل المسافر معه كتاباً مؤجّل القراءة. "سأقرأه في أقرب سفرة"، يخاطب نفسه قبل السفر. وذلك لأن المزاج ساعة السفر يكون محفّزاً للقراءة، صافياً ومنطلقاً لاستقبال كل جديد، كحالة المسافر وهو يغزو الفضاء مختصراً الزمن الخارجي والأمكنة، لينتقل من عالم وواقع إلى آخر، ربما أيضاً لأن ثمّة تغيّراً طرأ على الروتين اليومي، وما أصعب القراءة في ظل الروتين، وما أعذبها في حالة اختراقه. 
ستسافر ويسافر معك كتاب جديد، تبدأ الكلمة الأولى منه وتنطق في لحظة الإقلاع، وربما ستنتهي من الكتاب في منتصف الرحلة، أو ستقرأ منه خمسين صفحة ثم تتركه جانباً، لأنه كتاب مملّ، أو لأنه تُرجم بكيفية رديئة تحرق المراحل وتتابع الأحداث، أو لأن العنوان الصارخ والخادع لا يجد موازياً صادقاً له في المتن. كثيراً ما يحدُث هذا، بل هو الغالب، فالكتاب الممتع صار نادراً أو استثنائياً، بما في ذلك الرواية التي هي في العادة أول ما يفكّر المسافر في أخذه معه في رحلته، نظراً إلى أن في الرواية حكاية، والحكاية صديقة الرحلات ومؤنستها... احتياطاً، وتحسّباً لمثل هذه الظروف المُحبطة، ستحمل معك كتاباً احتياطياً. ربما ستنهي الكتاب الأول في منتصف الرحلة إن كانت طويلة. حصل لي في إحدى سفراتي إلى الهند أن بدأت بقراءة رواية مترجمة، ومع تقدّمي في القراءة اكتشفت سوء الترجمة، وربما سوء الكتاب المترجم في الأصل. لا أعرف مصدر الفتور الذي انتابني وجعلني أتثاقل عن الاستمرار في قراءة الكتاب، حين شعرتُ بسذاجة ما أقرأ، رغم أني اخترتُه كتاباً بعنوان مغرٍ. على شاكلة كتب عديدة يغريك العنوان، ولكن ما إن تمضي في القراءة تُصاب بخيبة أمل. ما حدث أني استثقلت أيضاً حتى أخذ الكتاب معي، ما إن هبطت الطائرة، تركته في جيب الكرسي أمامي وذهبت عنه، علّ قارئاً مقبلاً سيستهويه ويكمله بالنيابة عني. 
حدثت لي في إحدى رحلاتي إلى المغرب، حين بدأت بقراءة رواية تاريخية شائقة لأورهان باموق، ولكن في محطة الترانزيت، ومن أجل الدخول إلى دورة المياه، تركتُه في كرسي الانتظار، متعللاً بأن لا أحد سيستهويه كتاب متروك. ولكن ما حدث أني نسيته، لأني حين خرجت من دورة المياه، وجدت الجالسين وقد بدأوا في الصعود إلى الطائرة، ولم يتبق من المتأخرين غيري. غصّة صاحبتني طوال الرحلة، خصوصاً أن الرواية كانت شائقة، ولم أجلب معي كتاباً آخر. أفدتُ من هذا في رحلاتٍ مقبلة. 
إذا كانت في الطائرة شاشة سينمائية خاصة بكل راكب، فالأمر يصير أهون. سيقضي المسافر وقت الرحلة متنقلاً من فيلم إلى آخر. ولكن ليس في جميع الطائرات هذه الإمكانية، والأفلام المختارة عادة منتقاة حسب ذائقة خارجية محايدة. لذلك تظلّ القراءة الفرصة الأكثر مواءمة، خصوصاً في تقصير الأسفار الطويلة (جعلها قصيرة). وقد تحدّث الكاتب البيروفي، الفائز بجائزة نوبل، ماريو فارغاس يوسّا، مرّة، عن كسر رتابة الرحلات الطويلة بالقراءة، وخصوصاً قراءة الروايات، ولأن رحلاته طويلة في العادة، حيث سيقطع الطريق الجوي من إسبانيا حيث يقيم، إلى الأميركيتين، الجنوبية حيث موطنه الأصلي، أو الولايات المتحدة، حيث يلقي هناك محاضراته الجامعية عن بورخيس. بل هو يجد أن الرحلات الجوية طريقة مناسبة لفتح كتاب ظل مغلقاً والانتهاء من قراءته، كأن الكتاب هو أيضاً ينتظر ساعة السفر، كما صاحبه، لكي يبدأ بالحديث عن نفسه. ألم يقل بورخيس مرّة إن الكتب تتحدّث في الليل مع بعضها في المكتبة. لا بدّ أن بعض هذه الكتب كان حديثه عن الوقت الذي سيفتحه فيه صاحبه ويقرأه. وكم من كتب ظلّت مركونة في الرفوف، بغرض الزينة والاستعراض ولم تُفتح أبداً. وكم من طرائف يمكن مشاهدتها في معارض الكتب في هذا السياق. ولن أنسى ذلك الرجل الذي أحضر معه إلى معرض مسقط للكتاب ذات عام بعيد خيطاً لقياس الأمتار والمساحات، من أجل البحث عن مجلّدات وسلاسل كتب، تناسب مقاسات أرفف مكتبته في مجلسه في منزله الجديد.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي