كامب ديفيد... ثمن ماذا؟
ثمّة رواياتٌ موصومة وأخرى مهضومة، والمعيار، فيما أزعم، ينبغي أن يكون الواقع. ولا بأس من الاستغناء عن بعض اللياقة "الشللية"، أو كبرياء التمسّك بمقررات الآراء ومكرّراتها، مقابل إقرار اللسان بما تراه العين.
أحد أبرز الأمثلة على الآراء الموصومة وكالة الأنظمة العربية الحالية عن الاستعمار، ولو بدرجةٍ ما، والتزامها، رغم أنفها، حدودَها المرسومة سياسياً كما رُسمت حدود سايكس بيكو، جغرافياً، بحيث تحافظ الأولى على سلامة الثانية، مقابل الحفاظ على استقرار حكّام المنطقة على كراسيهم.
ليس مثل اتفاقية كامب ديفيد مثالاً أكثر وضوحاً على هذه الرواية الموصومة في الخطابات "العقلانية" بوصفها من مزايدات القوميين الحنجوريين أو الإسلاميين الشعبويين، فإذا وضعنا "كامب ديفيد" في ميزان "الرفض المصري" فإننا لا نجد في تاريخنا الحديث ما يعدل كفّتها سوى رفض المصريين الاستعمار نفسه.
وقّع أنور السادات الاتفاقية رغم أنف مجتمعٍ بأسره، فئاته وطوائفه وأحزابه ونخبه ومثقفيه ومواطنيه، وحين حاولت إسرائيل أن تتجاوز حدود السادات إلى مجتمعه، واشتركت رسميا في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1981، انتفض الناشرون المصريون والعرب، ونزعوا أعلام إسرائيل، وسقطت لافتات الجناح الإسرائيلي فوق رأس سفير الكيان الصهيوني في مصر في أثناء زيارته المعرض، ففرّ هاربا، ولم يقتصر الأمر على ردود الفعل العفوية للناشرين، بل أعقبة أيضاً دعم سياسي من أحزاب المعارضة المصرية التي أصدرت بيانات قوية تدين اشتراك العدو في معرض القاهرة، ما أسفر، وقتها، عن إلقاء الشرطة المصرية القبض على بعض كتّاب البيانات وموزّعيها. بل إن أصدقاء للشاعر صلاح عبد الصبور اعتبروا مجرد موافقته على اشتراك إسرائيل في معرض الكتاب الذي يرأسه خيانة، رغم أن القرار كان سيادياً، و"ساداتيّاً"، رغم أنف عبد الصبور والمصريين جميعا. وحين زايد رسّام الكاريكاتير بهجت عثمان على صلاح عبد الصبور، في منزل الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي واتهمه بـ"بيع القضية" انفعل عبد الصبور وأصابته ذبحة صدرية ومات.
كان ذلك هو الاحتكاك الأول بين الصهاينة والمجتمع المصري، الذي لم يُشبه يوماً حكّامه في موقفهم من "المحتل"، وتوالت الإدانات في ساحات السياسة والدين والثقافة والفن بما يحتاج عشرات المجلدات لتوثيقه، حتى بات عداء "التطبيع" من بديهيّات الاجتماع المصري، لدى الصهاينة أنفسهم، الذين عبّروا عن ذلك في مواقف مختلفة، أقربها تصريحات إيهود باراك، في أثناء ثورة 25 يناير التي أعلن فيها خوفه على "مصير كامب ديفيد" إذا رحل حسني مبارك، وتوقّع أن تتنافس الأحزاب المصرية على إظهار عدائها لإسرائيل. وهو ما حدث بالفعل في أثناء الانتخابات الرئاسية في 2012 حيث تنافس مرشحو الرئاسة في إظهار هذا العداء ووعدوا جميعا (باستثناء أحمد شفيق) بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد. وكان أبرزهم حمدين صباحي الذي صرح في مؤتمره الانتخابي في محافظة قنا بأنه في حال انتخابه رئيسا سوف يوقف تصدير الغاز لإسرائيل ويلغي اتفاقية كامب ديفيد، إذا طلب الشعب. أما عبد المنعم أبو الفتوح فقد أوشك أن يكون مرشّح إلغاء كامب ديفيد، إذ لم يخلُ لقاء معه أو حوار صحافي أو خطاب في سرادق انتخابي من هجوم على المعاهدة ووعد بإلغائها، وكذلك عمرو موسى، الذي قال إن "اتفاقية كامب ديفيد ماتت ودفنت"، وهو ما كرّره بقية المرشّحين بصيغ مختلفة. أما محمد مرسي فقد خطط، منذ اليوم الأول، لإلغاء كامب ديفيد، وهو ما أشار إليه الباحث الإسرائيلي ليعاد بورات في دراسة بعنوان "الإخوان المسلمون وتحدّي السلام بين مصر وإسرائيل"، صدرت عن مركز بيغين السادات للدراسات الإستراتيجية التابع لجامعة بار إيلان، بعد عزل مرسي.
وبعد، النظام المصري، الآن، وبعد تهديد الجانب الإسرائيلي باجتياح رفح، طلب من عواصم غربية، وفق "نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال"، إبلاغ إسرائيل بأن ذلك سيعرّض معاهدة السلام إلى الخطر. هذا هو الثمن، إذاً، وبوضوح، المعاهدة مقابل أمان الكرسي، ومقتضياته. فما الذي يجعل الإقرار بـ "عمالة" الأنظمة العربية حنجورية أو شعبوية؟