قناة العربية أم علي بن الجهم؟
تشتهر في بطون كتب الأقدمين العرب، عن سير الشعراء وتراجمهم، قصة علي بن الجهم، الشاعر الذي كان يقيم في البادية، ولمّا جاء بغداد أول مرة، أنشد الخليفة العباسي، المتوكل، قصيدة مديح، وفيها:
أنت كالكلبِ في حفاظك للودّ/ وكالتيْس في قراع الخطوب
ولمّا عرف الخليفة حُسن مقصده، وخشونة لفظه، وأنه ما رأى سوى ما شبَّهه به، لعدم المخالطة وملازمته البادية، أمر له بدارٍ حسنةٍ على شاطئ نهر دجلة، فيها بستانٌ حسن، والجسرُ قريبٌ منه، وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهَد به، فكان الشاعر يرى حركة الناس ولطافة الحضر، فأقام ستة أشهر على ذلك، والأدباء يتعاهدون مجالسَته، ثم استدعاه الخليفة المتوكّل، لينشده، فأنشد:
عيونُ المها بين الرصافة والجسر/ جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدْنَ لي الشوقَ القديمَ ولم أكن/ سلوتُ ولكن زدنَ جمرا على جمر..
فقال الخليفة: لقد خشيتُ عليه أن يذوب رقةً ولطافة (غضب منه الخليفة لاحقا، وصادر أمواله، بعد خلاف معه، وتلك قصة أخرى).
أما الإتيان بتلك القصة إلى هنا، فإنما لانعدام اللطافة في تشاطر محرّرٍ في قناة العربية، طيّر في موقعها الإخباري من دبي، قصةً إخبارية، ساعاتٍ بعد حسم جو بايدن رئاسته الولايات المتحدة، أريدَ منها ما هو أكثر من الغمز واللمز، ففضحت ما في حشايا القائمين على القناة، ومن خلفَهم ومن وراءهم، من شديد الامتعاض لأن رئاسة أميركا لم تنعقد ثانيةً للرئيس الراهن، دونالد ترامب، لمّا اختارت للقصة العنوان الذي بقي ساعاتٍ قبل إزاحته، ربما بعد تنبيهٍ من مراجع عليا غير معلومة، "الكلاب تعود إلى البيت الأبيض"، مع صورة بايدن واقفا وإلى جانبه كلب (هل هو الكلب ميجر الذي تبنّاه قبل عامين أم كلب العائلة تشامب؟ .. لا أعرف). والراجح أن الزميل الذي استطاب هذا العنوان، ثم استحسنَه المسؤولون عنه، قبل أن يرعووا، أغواهم عدم تفضيل ترامب الكلاب، وربما بغضُه لها، على غير أسلافه (مشهورةٌ لقطات جورج بوش الابن، يداعب كلبه، وهو يتكلّم عن عالمٍ أفضل من دون صدام حسين)، وقد "غرّد" ترامب في هذا الخصوص، فعقّب عليه بايدن: دعونا نعيد الكلاب إلى البيت الأبيض.
إنما أراد علي بن الجهم مديحا للخليفة، الحافظ للود كالكلب، فيما ناس "العربية" أرادوا تحقيرا في رئيس أميركا المرتقب، فالصورة العامة للكلاب ليست حسنةً في الثقافة العربية الشعبية، وإلا ما سارع القائمون على التحرير في القناة التلفزيونية إلى شطب العنوان، بل وإزالة القصة كلها، تداركا منهم أثرهما الشديدي السلبية، سيما أن هذه القناة، كما نظيراتٌ لها وصحافاتٌ ومنصّاتٌ غير قليلةٍ في الإمارات ومصر، لم تكترث بالمزاج الشعبي العربي العريض الذي تابع الانتخابات الرئاسية الأميركية وتفاصيلها، اشتياقا لخروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، وليس حبّا ببايدن الذي يمكن إدراج التشنيعات عليه في تلك القنوات والصحف والمنصّات في باب العجائب والطرائف والغرائب. ومن مضحكاتٍ غزيرةٍ في هذا المقام أن يتجنّد كتابٌ ومعلقون ورؤساء تحرير في صحف مصرية لتقريع "انحرافات" تلفزاتٍ وصحفٍ أميركية كبرى (سي إن إن وواشنطن بوست مثلا) في انحيازها ضد ترامب.
على الغرار نفسه، أو ما يُشبهه على الأصح، فعلت صحيفة الشرق الأوسط (السعودية)، في نشرها القصة الإخبارية الموجزة (بثتها في الأصل وكالة الأنباء الفرنسية)، لمّا عنونتها "الكلاب تعود إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات"، وهو أخفّ وقعا من حرفنة "العربية"، سيما وقد نُشر في باب المنوّعات (وهو كذلك بداهة)، غير أنها، احتراسا وتحسّبا واحترازا، بادرت تاليا إلى تعديل العنوان، في موقعها الإلكتروني، ليكون مباشرا وتقليديا، من دون أي ظلالٍ محتملةٍ له.
إنه، على الأرجح، سوء الطوية الذي لا صلة له بحُسن الفطن يفسّر ما يجري الحديث عنه هنا. كان ثقيلا، زاوله إعلام عربي، في ثلاثة بلدان على الأقل، ضد جو بايدن، ويعود إلى خياراتٍ سياسيةٍ تصطفّ مع ترامب وشروره. وكان في الوسع أن يعمد القائمون على هذا الإعلام إلى بعض الحياد وشيء من المهنية في الأخبار والتقارير والقصص الصحافية، ويتركوا للمعلقين والكتّاب أن يفضّلوا ترامب أو بايدن. لكنهم لم يقدروا، افتقدوا الكياسة أو مقادير منها، على ما شوهد على شاشات مصريةٍ، بدا ناسُها كأنهم موظفون في حملة ترامب، وهم يسترسلون عن تزويرٍ حدث في الاقتراع بالبريد (!). .. ولأن الملافظ سعد، كما يُخبر قولٌ سائر، فإن السعد خانَ هؤلاء، وهم يلعبون في قصة كلاب بايدن، فدوّت فضيحة "العربية" تلك، وذكّرتنا بعلي بن الجهم شاعرا مكينا، يعرف مواطن كل قولٍ ومقامه ومقاصده، فرأى في الكلب حفظه الود، ولا شيء آخر تخفيه طويّتُه وسريرتُه.