قطر تستحقّ الأصلح والأكفأ من أبنائها
سألني زميل أميركي: "كيف حالكم مع التجربة الأولى للديمقراطية القادمة، هل أنتم فعلا مستعدون لها"؟ أجبته باختصار: "لا يمكن وصفها بالتجربة الديمقراطية كما هي في الغرب، وقد نحتاج عقودا لبلوغها، والمحافظة على إبقائها صحية. ولكنها التجربة الأولى لنا للمشاركة الشعبية في الُسلطة التشريعية. وأخذاً في الاعتبار حداثتها، فلا يمكن تقييمها، بما في ذلك استعداد الشعب لها ومدى نجاحها إلا بعد دورتين وربما أكثر".
لا يختلف اثنان على أن انتخابات الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول) لمجلس الشورى منعطف تاريخي في قطر مهم جدا، وسيؤثر في "هوية الُسلطة التشريعية وقوتها" ودورها المأمول محلياً وخارجياً، وسيعوّل المنتخبون على الأعضاء القادمين في تمثيلهم الداخلي في بحث شؤونهم ومناقشتها، والتمثيل الخارجي للوطن. في الواقع، هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها، ولا بد من أن يستوعبها الناخبون جيدا، وهي أن أعضاء المجلس المقبل، وبعيدا عن أي نقدٍ لقانون الانتخابات وما أفرزه من جدليات وقوة تأثير القبلية في مسار التجربة الحالية ومصداقيتها، فإن أعضاء المجلس لن يمثلوا أي ناخب/ قبيلة/ دائرة بعينها، بل سيمثلون الوطن ككل. وأسترجع هنا حوارا مثيرا بيني وبين طلبة الماجستير في معهد الدوحة للدراسات العليا في أحد المقرّرات في ربيع 2019، حين كنا نناقش الانتخابات المقبلة وأثرها في الإصلاح المؤسّسي، حيث سألني أحد الطلبة، ولم أكن أعلم حينها أنه من دائرتي الانتخابية، إن كنت سأرشح نفسي، فأجبته بالنفي، من باب إعطاء الفرصة لغيري من الكفاءات القطرية النسائية. ولكني سألته من باب الفضول: "هل ستصوّت لي إن كنتُ من دائرتك، ومن أفضل المرشحين علما وخبرة وخدمة للوطن"، فأجابني مباشرة وبدون تردّد: "كلا، سأختار المرشح من قبيلتي". فسألته: "هل تعتقد أن ابن قبيلتك عندما يصبح عضواً في المجلس سيُمثلك وقبيلتك فقط، وأن ممارسته مهامه وصلاحياته ستكون لصالحك وقبيلتك فقط؟ وهل ممارسته حقه في استجواب أي مسؤول سيكون لقضاء معاملة لك أو لعلاج معضلة خاصة بك وقبيلتك فقط؟ ومن باب بعض أمنيات الناخب ووعود المرشح، هل سيمنحك الأرض التي تريدها؟ وهل سيضمن لك التسهيلات الإدارية والمالية اللازمة لإنشاء مشروعك التجاري؟ وهل سيوفر تأمينا صحيا حكوميا خاصا، لك ولأفراد أسرتك؟ وهل سيحصل لك على موافقة اللجنة الطبية لعلاج والدتك في الخارج؟ وهل سيحصل لابنك على استثناء من شروط القبول لبعثات التعليم؟ وهل سُيعجّل من إجراءات توظيف ابنتك المهندسة، والتي ما زالت قيد الإجراء منذ سبعة شهور؟ وهل.. وهل..؟". وأكملت حواري معه وبقية الطلبة بالقول: "كما أن الانتخابات وعضوية مجلس الشورى ليست تمثيلا فرديا ولا قبليا، وليست وجاهة ولا شرفا، فإنها ليست امتيازات خاصة للعضو وناخبيه من بني قبيلته/ دائرته، وليست وعوداً وردية وشعارات رنّانة منمقة تخاطب عواطفنا الجياشة، وفزعتنا القبلية على حساب الوطن، ومن يظن ذلك فهو مخطئ".
نحن في حاجة إلى مراجعة ثقافة التصويت وممارساته، لضمان وصول من يُمثّلنا جميعا ويُمثل وطننا
وهنا الفرق بين انتخابات المشاركة الشعبية الفكرية، والتي تعتبر ثقافة ومهارة مجتمعية وانتخابية في الوقت نفسه، (كما هي في ديمقراطية الغرب) وانتخابات المشاركة الشعبية بحق المواطنة، والتي قد تعتبر مجرد ممارسةٍ تغلب عليها العاطفة، وربما أصوات مُوجّهة لفوز بعض أفراد القبيلة/ الدائرة، فالأولى حيادية ونزيهة، وتعتمد معياري الأصلح والأكفأ، وتسعى إلى المصلحة العامة للوطن إجمالاً. والثانية يغلب عليها ممارسات وثقافة الفزعة والعاطفة القبلية بعيداً عن معياري الأصلح والأكفأ، بل قد يكون المعيار الوحيد هو صلة القرابة وضمان المحافظة على تمثيل القبيلة في المجلس!
لهذا، نحن في حاجة إلى مراجعة ثقافة التصويت وممارساته، لضمان وصول من يُمثّلنا جميعا ويُمثل وطننا. إننا بحاجةٍ إلى إعادة النظر في الاختيار الصحيح للمرشّح، حسب كفاءته وعلمه، وما تركه من أثر طيب وأعمال وسيرة حسنة، وبصمة ما زالت تتحدّث عنه في خدمة مؤسسات الدولة والمجتمع، ومن أثبت قدرته على الإصلاح والتطوير. إن أردنا بلوغ المشاركة الشعبية الفعلية والجذرية في الإصلاح والتطويرالتشريعي والمجتمعي والمؤسسي، فعلينا، نحن الناخبين، أولاً إدراك قيمة أصواتنا الانتخابية وقوتها، وثانيا وضعها في المكان الصحيح، ومنحها للمرشّح الأكفأ والأصلح، بعيدا عن المجاملات المجتمعية للقبيلة والدائرة وأصحاب المال والجاه والسُلطة. أصواتنا مسؤولية وطنية وأمانة كالشهادة، إما أن تكون شهادة حق لنفع البلاد والعباد أو شهادة زور لضرّ البلاد والعباد، فأي مشروع تشريعي أو مقترحات المناقشة أو حتى استدعاء لأي مسؤول لن يكون لصالح فرد ما أو قبيلة ما، بل لصالح الوطن والمواطن. كما على كل مرشّح أن يستوعب ويعي تماماً أن عضويته تكليف وواجب ومسؤولية وطنية، تتطلب الجد والإخلاص والفهم التشريعي والمشاركة الفعلية لدوره المأمول في خدمة الوطن والمواطن.
على كل مرشّح في انتخابات مجلس الشورى أن يستوعب ويعي تماماً أن عضويته تكليف وواجب ومسؤولية وطنية
ولنتذكّر، أخيراً، إن أردنا فعلا الممارسة والمشاركة الشعبية الصحية والسليمة، فلنضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار، ولنوقن تماما أن أصواتنا أمانة، وأن أدوارنا، نحن الناخبين، لا تنتهي بالإدلاء بأصواتنا ولا بعد الفرز، بل يحقّ لنا ممارسة دور الرقيب على أداء المرشّح الذي حصل على أصواتنا ومشاركته الحقيقية في المجلس المرتقب.
ختاما، لا نعلم كيف ستنتهي التجربة ولا مخرجاتها، ولكننا نسأل الله العلي القدير أن يجعل لنا في هذه التجربة كل الخير لوطننا، وأن يُولّى علينا خِيارنا، وأن يُسخرهم لخدمة الوطن، فقطر تستحق الأصلح والأكفأ من أبنائها.