16 سبتمبر 2021
صناعة الرأي العام في الأزمة الخليجية
تنطلق صباح اليوم فعاليات الدورة الرابعة لمنتدى الخليج ودراسات شبه الجزيرة العربية الذي ينظمه المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات، وبعنوان فرض نفسه سياسياً لأزمة غير مسبوقة إقليمياً، "الأزمة الخليجية.. السياقات الإقليمية والدولية ودور الإعلام". العنوان الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال لطرح إشكالية الإعلام التقليدي وأزمته في التأثير على الرأي العام في الخليج العربي، وبالذات في ظل الأزمة الخليجية الحالية والمفتعلة من دول الحصار.
يلعب الإعلام دوراً مهماً ومؤثراً في صناعة الرأي العام، وربما توجيهه. وغالباً ما يمثل الإعلام التقليدي الخطاب السياسي للحكومة وتوجهاتها حيال قضايا كثيرة، وبالذات السياسية. ويمكن لنا أن نستحضر هنا، على سبيل المثال، دور الإعلام الخليجي في التدخل الدولي في العراق إبّان إطاحة حكم صدام حسين والربيع العربي، حيث تنوّع الخطاب الإعلامي بين التأييد والرفض والتحفظ، حسب موقف الحكومة، وكذلك الحال تجاه ليبيا وسورية واليمن وقضايا أخرى، كالدين والإرهاب. وينحرف الأمر بدرجة أكبر مع الإعلام الخاص، حيث يُسيطر أصحاب رأس المال على الإعلام وتوجيهه حسب "مصالحهم تارة ومصالح شركائهم تارة أخرى"، الأمر الذي يفقده المصداقية والنزاهة، وبالذات في طرح قضايا الفساد.
برزت صناعة الرأي العام جلياً في الأزمة الخليجية الحالية، حيث فرضت السعودية والإمارات والبحرين حصاراً جائراً على قطر، في انتهاك صريح وواضح لميثاق مجلس التعاون لدول الخليج العربية والقوانين الدولية، والمؤسف أن إعلام هذه الدول، التقليدي والخاص، أبدى السمع والطاعة لولاة أمره، فانتهج جميعه الخط نفسه في التراشق الإعلامي المبني على تكذيب الحقائق، وتدليس التاريخ وتزويره، والافتراء والسب لرموزنا، في سابقةٍ خليجيةٍ، هي الأولى من نوعها في تاريخ دول الخليج، والتي وصلت أحياناً إلى وقاحةٍ علنيةٍ رسميةٍ مدعومةٍ من الحكومة! المؤسف أن هذه الحرب الإعلامية انتقلت من وسائل الإعلام التقليدية إلى وسائل التواصل الاجتماعي.. وهنا الطامة الكبرى! حيث غزت وسائل التواصل الاجتماعي جيوشٌ مجيشةٌ من "قطيع العامة والذباب الإلكتروني"، لا تفهم إلا لغة السبّ، ولا تفقه إلا مهنة البذاءة!
يقول نعوم تشومسكي، "ليس كل ما يُقال في الإعلام نُصدّقه، ولا يمكن النظر إليه على أنه
الحقيقة الكاملة، فكثيرون من الحُكام وأصحاب السلطة يُخفون أجنداتهم وخططهم الحقيقية، باستخدام الإعلام والدعاية في تشكيل الرأي العام وتكوينه، فبفضلهما تنشأ حركاتٌ اجتماعية أو تندثر، وتبسّط بعض الأزمات الاقتصادية وتخفّفها، وتبرّر الحروب، ويتم تأجيج الخلافات وإشعالها بين الأيديولوجيات المختلفة". وهذا ما فعله الرئيس الأميركي، وودرو ويلسون، الذي لجأ إلى الصحافة، لحشد همّة الشعب الأميركي للوقوف معه ضد ألمانيا في أثناء الحرب العالمية الأولى، فشكّل "لجنة مريل" للدعاية الإعلامية لحربه، واستعان بالطبقة المثقفة، مثل الفيلسوف وعالم النفس والتربية، جون ديوي. وينطبق الأمر نفسه على استخدام كلمة الإرهاب لحشد الرأي العام الأميركي، والتي ما زالت تستخدمه في تقنين تدخلها في شؤون الدول الأخرى.
وهذا حال معظم الشعوب العربية في أثناء ثورات الربيع العربي التي مجدت القائد من دون وعي أو اقتناع حقيقيين تماماً، كالقطيع الضائع، في حين عملت أنظمة حكم الربيع العربي على توظيف الإعلام في تشويه صورة الشباب المعتصم، واتهامهم بإثارة الفتن وخيانة البلاد. وهذا أيضاً حال دول الحصار التي وظفت إعلامها التقليدي والتواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام المؤيد لها في حصار قطر، من خلال الاستراتيجيات التي ذكرها تشومسكي: إلهاء الرأي العام عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية لمجتمعاتها، الحديث عن مشكلات داخلية وتوفير حلها حسب ما تريده السلطة، مثل مكافحة الفساد، التغييرات الجذرية تدريجياً، والتي كانت ستتسبب في ثورة لو تم تطبيقها دفعة واحدة، كما حدث مع التطبيع مع إسرائيل، التأجيل إلى "المستقبل الأفضل" لأنه مُوجعٌ ومُضر حالياً، مخاطبة الرأي العام بنبرة عاطفية وسطحية وضحلة، عبر الأغاني والفن الرخيص، إبقاء العامّة في حالةٍ من الجهل والغباء، وتشجيعهم على الرضا بجهلهم، تفادياً لتمرّدهم، ولعل هذا ما يبرّر اقتناع شعوب دول الحصار التام بأن حصار حكوماتهم قطر حقٌّ، وأنه مقاطعة وليس حصاراً، وأخيراً تحويل التمرد إلى شعور ذاتي بالذنب، لصرف أنظار الرأي العام عن التمرّد على أنظمتهم الحاكمة!
لعل مشكلة دول الخليج العربي تجاه الثورة المعلوماتية ووسائل التواصل الاجتماعي أنها لم
تُهيئ الأرضية المجتمعية والمؤسسية الإعلامية والبشرية، لتتماشى مع سرعة تدفق ثورة المعلومات، ولا مع مستوى تحوّلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل حافظ الإعلام التقليدي على خطابه المتوارث منذ عقود، بمحتوى وأساليب بدائية في الطرح والتحليل، اعتمدت، في أحيان كثيرة، على وجهة نظر "الصحافي/ رئيس التحرير الوحيد"، وليس فريقاً متكاملاً في جمع المعلومات والبحث والتنقيح والتحليل، وبما يتماشى مع حيادية المهنة من دون إفراط ولا تفريط. ولعلّ هذا يفسر التداول المتواضع وغير المهني من الإعلام التقليدي لقضايا مجتمعية، كالتي تتعلق بالمواطن والعمل المؤسسي، منها قضايا التقاعد المبكر وتجنيس أبناء المواطنات والفساد الإداري والمؤسسي وبطء إجراءات القضاء وغيرها، ما دفع المواطنين إلى وسائل التواصل الاجتماعي لمناقشة هذه القضايا بحريةٍ "غير مقيدة" ضمن إطار أوسع للشفافية، بعيداً عن مقص "رئيس التحرير". ولن يتحرّر الرأي العام الخليجي من قبضة (وسيطرة) الإعلام التقليدي وإعلام التواصل الاجتماعي المُوجه بسهولة، إلا عندما يتحرّر من قبضة الخطابات التحريضية لتأجيج الكراهية والقبلية التي وظفتها دول الحصار، وفشلت فيها بامتياز.
ختاماً، دخلت صناعة الرأي العام في الأزمة الخليجية منعطفاً جديداً لم نعهده سابقاً، وساهم مستشارو إعلام الكراهية وإثارة الفتن في صنع استبداد إعلامي، والاستعانة به في توجيه الرأي العام، بعيداً عن هراوات رجال الشرطة، فإن أرادت حكومة ما من دول الحصار تأجيج الرأي العام لشعبها، وتوجيههم، سارع أحد مسؤوليها (وخصوصاً وزراء "تويتر") إلى كتابة تغريدة، لتكون كافية لشحذ آلاف مؤلفة من القطيع الضال!
يلعب الإعلام دوراً مهماً ومؤثراً في صناعة الرأي العام، وربما توجيهه. وغالباً ما يمثل الإعلام التقليدي الخطاب السياسي للحكومة وتوجهاتها حيال قضايا كثيرة، وبالذات السياسية. ويمكن لنا أن نستحضر هنا، على سبيل المثال، دور الإعلام الخليجي في التدخل الدولي في العراق إبّان إطاحة حكم صدام حسين والربيع العربي، حيث تنوّع الخطاب الإعلامي بين التأييد والرفض والتحفظ، حسب موقف الحكومة، وكذلك الحال تجاه ليبيا وسورية واليمن وقضايا أخرى، كالدين والإرهاب. وينحرف الأمر بدرجة أكبر مع الإعلام الخاص، حيث يُسيطر أصحاب رأس المال على الإعلام وتوجيهه حسب "مصالحهم تارة ومصالح شركائهم تارة أخرى"، الأمر الذي يفقده المصداقية والنزاهة، وبالذات في طرح قضايا الفساد.
برزت صناعة الرأي العام جلياً في الأزمة الخليجية الحالية، حيث فرضت السعودية والإمارات والبحرين حصاراً جائراً على قطر، في انتهاك صريح وواضح لميثاق مجلس التعاون لدول الخليج العربية والقوانين الدولية، والمؤسف أن إعلام هذه الدول، التقليدي والخاص، أبدى السمع والطاعة لولاة أمره، فانتهج جميعه الخط نفسه في التراشق الإعلامي المبني على تكذيب الحقائق، وتدليس التاريخ وتزويره، والافتراء والسب لرموزنا، في سابقةٍ خليجيةٍ، هي الأولى من نوعها في تاريخ دول الخليج، والتي وصلت أحياناً إلى وقاحةٍ علنيةٍ رسميةٍ مدعومةٍ من الحكومة! المؤسف أن هذه الحرب الإعلامية انتقلت من وسائل الإعلام التقليدية إلى وسائل التواصل الاجتماعي.. وهنا الطامة الكبرى! حيث غزت وسائل التواصل الاجتماعي جيوشٌ مجيشةٌ من "قطيع العامة والذباب الإلكتروني"، لا تفهم إلا لغة السبّ، ولا تفقه إلا مهنة البذاءة!
يقول نعوم تشومسكي، "ليس كل ما يُقال في الإعلام نُصدّقه، ولا يمكن النظر إليه على أنه
وهذا حال معظم الشعوب العربية في أثناء ثورات الربيع العربي التي مجدت القائد من دون وعي أو اقتناع حقيقيين تماماً، كالقطيع الضائع، في حين عملت أنظمة حكم الربيع العربي على توظيف الإعلام في تشويه صورة الشباب المعتصم، واتهامهم بإثارة الفتن وخيانة البلاد. وهذا أيضاً حال دول الحصار التي وظفت إعلامها التقليدي والتواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام المؤيد لها في حصار قطر، من خلال الاستراتيجيات التي ذكرها تشومسكي: إلهاء الرأي العام عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية لمجتمعاتها، الحديث عن مشكلات داخلية وتوفير حلها حسب ما تريده السلطة، مثل مكافحة الفساد، التغييرات الجذرية تدريجياً، والتي كانت ستتسبب في ثورة لو تم تطبيقها دفعة واحدة، كما حدث مع التطبيع مع إسرائيل، التأجيل إلى "المستقبل الأفضل" لأنه مُوجعٌ ومُضر حالياً، مخاطبة الرأي العام بنبرة عاطفية وسطحية وضحلة، عبر الأغاني والفن الرخيص، إبقاء العامّة في حالةٍ من الجهل والغباء، وتشجيعهم على الرضا بجهلهم، تفادياً لتمرّدهم، ولعل هذا ما يبرّر اقتناع شعوب دول الحصار التام بأن حصار حكوماتهم قطر حقٌّ، وأنه مقاطعة وليس حصاراً، وأخيراً تحويل التمرد إلى شعور ذاتي بالذنب، لصرف أنظار الرأي العام عن التمرّد على أنظمتهم الحاكمة!
لعل مشكلة دول الخليج العربي تجاه الثورة المعلوماتية ووسائل التواصل الاجتماعي أنها لم
ختاماً، دخلت صناعة الرأي العام في الأزمة الخليجية منعطفاً جديداً لم نعهده سابقاً، وساهم مستشارو إعلام الكراهية وإثارة الفتن في صنع استبداد إعلامي، والاستعانة به في توجيه الرأي العام، بعيداً عن هراوات رجال الشرطة، فإن أرادت حكومة ما من دول الحصار تأجيج الرأي العام لشعبها، وتوجيههم، سارع أحد مسؤوليها (وخصوصاً وزراء "تويتر") إلى كتابة تغريدة، لتكون كافية لشحذ آلاف مؤلفة من القطيع الضال!