قصة "القط الأسود" سينمائياً

23 يناير 2023

مشهد من فيلم "العين الزرقاء الشاحبة" (نتفليكس)

+ الخط -

يقوم فيلم "العين الزرقاء الشاحبة" إخراج سكوت كوبر (2023) الذي عرضته، أخيراً، منصّة نتفليكس على فكرة مبتكرة، تم فيها استغلال شخصية حيّة لصياغة فيلم غامض، والشخصية هي أحد أهم كتّاب الغموض والرعب في القرن التاسع عشر وفي الأدب الإنساني، وهو الأميركي أدغار ألن بو الذي عُرف بالقصص الشبحية المبنيّة على الغموض والرعب، وقد تعمّقت شهرته في العالم، حين ترجم له الشاعر الفرنسي، بودلير، جانبا من أعماله الشعرية والقصصية إلى اللغة الفرنسية. 
أشهر ما كتب بو في الشعر قصيدة "الغراب"، وهي درامية مبنيّة على الشؤم والسواد، ترجمت مراتٍ إلى العربية، ومن الترجمات التي لمست الدراما الداخلية للقصيدة، حتى يعيش القارئ معها لحظات من يقرأ قصة، هي ترجمة الصديق الراحل جهاد هديب. وفي القصة القصيرة، وهي المجال الذي ترك فيه بو أكثر إبداعاته، كانت القصة المرعبة "القط الأسود" الأشهر بين قصصه، وقد ترجمت مرارا إلى العربية، وأرى أن ترجمة اللبنانية من أصل سوري خالدة سعيد هي الأفضل. 
لا أثر في فيلم "العين الزرقاء الشاحبة" لأي قط، ولأنه مبنيٌّ أساساً على الغموض والإيحاءات القاتمة، فمن يتأمّل هذه القصة يكتشف أنها الأقرب إلى العوالم الخفيّة لهذا الفيلم، أو هي أحد إيحاءاته غير المباشرة، ليس فقط لأنها قصةٌ تقوم على التحقيق بحثا عن القاتل، كما عليه موضوع الفيلم، إنما لأن المفاجأة كذلك تتبدّى في ختام القصة، حين تنكشف فجأة الجريمة بصورة غير متوقعة، واللقطة الختامية للفيلم ستنكشف إلى عين المتفرّج قريبة في مفارقتها من الخاتمة المفاجئة للقصة الشهيرة. أما "الغُراب" فثمّة لقطة واضحة في الفيلم لطائر الشؤم هذا، حين تركز الكاميرا على غُراب ينعق في غصن شجرة عالية، وتمنحه وقتا جيدا من التصوير، خصوصا حين يتوازى نعيقُه المتوالي مع خطوات هبوط الشخصية الرئيسية في الفيلم، المحقق أوغستوس لاندرو (أداه بإتقان الممثل البريطاني كريستيان بيل) على السلالم. سوف يعيش المتفرّج مع نوعٍ غريبٍ من ردّات الفعل الباردة عند هذا المحقّق الذي يجتهد في إخفاء كل شيء يتعلق بالجريمة، على خلاف مهنته (التحقيق) التي تقتضي الكشف والتحرّي، وكأنه بذلك يخفي طريقة الكشف، ما من شأنه أن يجعل المتفرّج متشوّقا لملامسة الخيوط الخفية لجرائم القتل الغامضة التي يتعرّض لها مجنّدون شبابٌ في أكاديمية عسكرية. كما يكشف الممثل البريطاني، هاري ميلينغ، عن موهبة كبيرة، وهو يتقمّص شخصية حقيقية، أي شخصية القاص والشاعر أدغار ألن بو. وربما سيستوقف كل من سيشاهد الفيلم أداء هذا الممثل، صاحب العين الزرقاء الشاحبة الشبيهة بعين القط، في قصة "القط الأسود".  
تدلل أجواء الفيلم التي تدور في عالم الجريمة والغموض على الجاذبية التي تتمتع بها الأفلام التي تنفتح على الأدب، خصوصا في جانبه الشائق المتمازج، والمستفيد من القصص البوليسية التي تتوفّر على حبكة تصاعدية شائقة. وفي هذا السياق، كان الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو (نوبل للآداب 1998) يهتم كثيرا بقراءة الروايات البوليسية، من أجل أن يستفيد منها في وضع الحبكة الروائية التي يمكنها أن تشدّ القارئ من البداية إلى النهاية. الأمر الذي سارت عليه روايته الشائقة "العمى". وهناك رواية أخرى تجمع بامتياز بين التشويق والعمق، "كل الأسماء". 
كان دوستويفسكي أيضا مغرما بقراءة صفحات الجريمة التي تعرضها الصحف الروسية في زمنه، واستفاد منها في كتابته روايته "الجريمة والعقاب". وعربياً يمكن استحضار نجيب محفوظ ورائعته "اللص والكلاب"، التي جاءت نتيجة وترجمة سردية لهذا النوع من الاهتمام. وبالرجوع إلى فيلم "العين الزرقاء الشاحبة"، فهو شائق، بسبب هذا النسق الداخلي المعتمد على غموض الجريمة التي لا تنكشف خيوطها إلا في النهاية، وبصورة صادمة غير متوقّعة، كما هو الحال في قصة "القط الأسود" التي يكتشف المحقّقون فيها أن المجرم، الذي ظهر في البداية في دور الضحية، كان يدفن ضحاياه في قلب جدار إسمنتي. ويكشف الفيلم كذلك عن شيءٍ شبيه، لكنه غير مطابق، ما يجعل باب الإيحاء والتمويه مُشرَعا على الاحتمالات.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي