في هجاء المنفى الشمالي

15 ابريل 2024
+ الخط -

يوزّع العراقي، حسن بلاسم، في روايته "قانون سولولاند" (دار المتوسّط، ميلانو، 2022) صراحته بعدالة، سواء على مستوى اللغة الكاشفة رغم بلاغتها ومظانها الدلالية أو عن طريق سرد المشاعر الدفينة لحياة اللاجئين الهاربين من جحيم الأوطان، ليقعوا في فخاخ أوطان جديدة ترفض قبولهم إلا لاجئين مقيمين في ظلال من التوجّس والريبة. تبرَع الرواية في تكثيف مأساة اللاجئين العرب، في مواجهةٍ عنصريةٍ باردةٍ يعيشون تفاصيلها وآلامها ببطء. جاءت في مائة صفحة، وقدّمت مادتها في إطار حبكةٍ بوليسيةٍ تشويقيةٍ تشدّ القارئ وتضعه أمام استبطانٍ ماهرٍ لمشاعر المنفيّين في فضاءٍ لم يكن اختيارياً.
"أكتب من أجل الذين لم يولدوا بعد، لاجئي الحروب والفقر والمناخ المستقبليين.. أنتم الذين ستبقون غرباء ومنبوذين. أنتم الذين ستطاردكم إلى النَّفَس الأخير لعنة هروبكم وترك بيوتكم". 
كنتُ، وأنا أقرأ الرواية، أستذكر الصمود الذي يبديه أهل غزّة في التمسّك بأرضهم وتفضيلهم الموت والحصار على أي واقع آخر، "ليس هناك تجربة تضاهي الهجرة قسراً غير تجربة موت شريك حياة أو فقد أمّ لطفلها في حادث مفاجئ، بل ربما يكون الرحيل القسري أقسى بكثير، لأنّه ليس موتاً، بل احتضار طويل. كان النفي، في حضاراتٍ كثيرة قديمة، أشدّ العقوبات قسوة". وبعد أن تجول الرواية في هجاء المنفى من داخله ومن أعماقه، يوجّه السارد دائرة تعبيره على هيئة سؤال مفتوح إلى الإنسان المنفي، الذي يعيش عزلة وغربة مركبة، وصراعاً تفصيلياً في محيط يقبله على مضض ويرفض التعايش معه واعتباره مواطناً مثله، رغم الإطار العام البرّاق والقوانين التي تبدو صارمة، ولكنها في العمق هشّة تجعل المغترب عرضة لرياحها المتحوّلة. والسارد هنا لا يقدّم مادته إنشائياً، إنّما يبثّها في سياق الحدث المتنامي لبطل القصة الذي يروي الأحداث من سجنه، بعد أنّ اضطر إلى ارتكاب جريمة قتل دفاعاً عن النفس، حين استدرجته فتاة أوروبية، ورفاقه الثلاثة، إلى غابة بعيدة. ولأنّه لا بد أن تكون هناك جريمة للاجئ حتى إن لم يرتكبْها، اختار بطلُ الرواية جريمةً ألصقها بنفسه، وهنا تذهب الرواية مذهباً بليغاً ماكراً في التعبير عن علاقة اللاجئ بالشرطة في المنافي الباردة، بيد أنّهم يعيشون في المجتمع الجديد (اضطهادات) تأخذ أكثر من مستوى ومقام: "كم مرّة حاصرتك النظرات الخائفة المريبة والغاضبة، في العمل والأماكن العامة؟ كم مرّة تحوّلت العيون من حولك إلى كاميرات مراقبة بوليسية؟ كم مرّة شعرت أنّك (مجرم) افتراضي محتمل؟ كم مرّة رفضوا أن يؤجّروا لك بيتاً بسبب اسمك ولون بشرتك؟ كم مرّة تجنبوا أن يجلسوا بقربك في الباص أو المترو؟ كم مرّة زعق كحولي فجأة في وجهك، من دون سابق إنذار، ومن دون سبب؟ كم مرّة سخروا من لغتك وثقافتك وانتمائك؟ كم مرّة أفسح أحدهم لك المجال لأن تسحب الأموال من الصرّاف بعد أن كان دوره، فأنت خلفه مثل ظل شبح مخيف، والله وحده يعلم ما هي نواياك؟ كما مرّة أذلّك موظف الخدمة الاجتماعية، وتعامل معك بحدّة وكراهية؟ كم مرة عاقبتك الشرطة ضعف العقوبة المعتادة، بسبب أي مخالفة بسيطة؟ كم مرّة رفضوا أن يدخلوك النايت كلوب؟ كم مرّة جلست لتشارك أحدهم طاولته، فانسحب غاضباّ من دون أن يلتفت إليك؟".
بطل القصة قبل أن يضطرّ إلى دخول السجن بسبب جريمةٍ لم يرتكبْها، يصوّر لنا حرص اللاجئين وحذرهم الشديد من اقتراف أيّ خطأ في بلد غريب عنهم صارم في قوانينه. ورغم ذلك، وبسبب العنصرية والفوقية المبطّنة، تلاحقهم التُّهم وتعصف بهم الظنون، من دون سببٍ أحياناً، بل لأنّهم لاجئون فحسب، رغم أنّهم يعملون بكدٍّ ويخوضون في أكثر من عملٍ يدويٍّ من أجل ادّخار المال، كما حدث لبطل الرواية، الذي اختار بعد عمله الطويل في مطعم، أن يتفرّغ للترجمة في أحد مخيّمات اللاجئين في بلدة سولولاند البعيدة. 
اختار حسن بلاسم عنوان روايتِه في سياق السخرية من قانون يسمّى "قانون يانته" المعمول به في دول الشمال الأوروبي. في إحدى فقرات الرواية يصرُخ البطل: "أعزّائي اللاجئين: أنتم عبيد العصر!".

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي