في هجاء الشماتة

06 مارس 2023

(إبراهيم الحسون)

+ الخط -

في تعريفٍ بسيطٍ شاملٍ دقيقٍ للشماتة، يذهب علم النفس إلى أنها مشاعر الفرح والبهجة التي يسبّبها بؤس الآخرين. وهي ظاهرة نفسية مؤسفة شائعة، فضحتها وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، كي لا نقول إنها مرضٌ خطيرٌ وتَشوّهٌ نفسيٌّ وانحدار أخلاقي وتراجع إنساني يتمثل بانعدام مشاعر التعاطف والتضامن المفترضة في الطبيعة البشرية مع أحزان الغير، بل تصل بالمصاب بها إلى ما تُعرف بحالة الفرح الخبيث، وغالباً ما ترتبط  تلك الآفة المقيتة بالشخصيات الناقمة المتعصبة المعادية للمجتمع. وقد صنّفها الفيلسوف واللاهوتي، توما الأكويني (1225-1274)، واحدة من المشاعر السلبية الضارّة المستمدة من الحسد والحقد والكراهية والتنافسية المرضية والرغبة النهمة الشرهة بالتفوق تحت أي عنوان، ما يجعل الشامت يسعد لرؤية الآخرين يخفقون في حياتهم، ويضعهم، من وجهة نظره القاصرة العمياء، في مكانة اجتماعية أقلّ، فيغذّي الشعور لديه بالتفوّق والرضا، ويؤدّي به إلى ما تُعرف بحالة الفرح الخبيث، وهي تلك المتعة الغامضة المستمدة من مصائب الآخرين. 
ومن أغبى أشكالها على الإطلاق الشماتة عند موت أحد الخصوم أو المختلف معهم فكرياً وسياسياً، ولا يخجل هؤلاء من التعبير عن تلك المشاعر الدنيئة الخسيسة على الملأ بكل فجاجة، من دون أدنى مراعاةٍ لأحزان ذوي الراحل وأحبّته المفجوعين بغيابه. يتوهم هؤلاء الشامتون الصغار على غير صعيد، لفرط سذاجتهم ورثاثة أخلاقهم وتدني مستوى تفكيرهم، حصانة ما من مصيرٍ مماثلٍ يتربّص بهم في لحظة قادمةٍ لا ريب فيها. 
من غرائب ما مرّ عليّ في هذا العمر، حين شاهدت وسمعت، بأم العين والأذن، شاعراً عربياً كبيراً يشارك في حفل تأبين زميلٍ له، لا يقلّ شهرة عنه، في كلمة قاسية مؤلمة، لم توفر مذمّة في الرجل لم تأتِ على ذكرها. وقد عبّرت لغة جسده عن بهجة وارتياح. ولم تلبث أن تمضي سوى سنوات قليلة قبل أن يلحق برفيقه، وقد خسر الكثير من محبّيه وعاش أيامه الأخيرة في شبه عزلة. 
المؤسف أننا لا نتّعظ ولا نتعلّم ولا نتدبّر، بل سرعان ما ننسى ونخدع أنفسنا من جديد بوهم البقاء والحصانة والخلود. انطلاقاً من هذا الوهم، يبيح بعضهم لأنفسهم الفرح بالموت باعتبارهم في منأىً عنه. حين وقع زلزال تركيا وسورية الذي راح ضحيته آلاف، عبّرت صحيفة فرنسية تدّعي التقدمية، وتدافع عن حرية الرأي، عن تشفّيها بالكارثة الكبرى، من خلال كاريكاتير بذيء قبيح منعدم الإنسانية. وحين توفي الفنان طلال مدّاح في أثناء غنائه على خشبة المسرح، لم يشفع له، وهو الذي أسعد الملايين بصوته العذب الجميل، فضجّت عبارات الكراهية والتشفّي والشماتة بذريعة التديّن والانتصار للأخلاق الحميدة ولرصانة الأمة المضادّة للجمال والفن والفرح، معتبرين ما جرى له عقوبة إلهية عادلة. وحين رحلت الفنانة السورية المعارضة، مي سكاف، في المنفى وحيدة شريدة حزينة مخذولة، انهالت ردود الأفعال الممعنة في قسوتها ووحشيتها وانحطاطها من أنصار نظام البطش والقمع، معبّرين عن سعادتهم الفائقة، وتشفّيهم البالغ بمصير تراجيدي لفنانة أصيلة بارعة، ذنبها الوحيد أنها انحازت لوطنها المنهوب المستباح. وأخيراً، نال المعارضة السورية الراحلة، بسمة قضماني، ما نالها من عبارات التشفّي والشماتة بموتها المباغت الذي أسعد قلوباً سوداء حاقدة. 
وتظلّ الشواهد على مدى قسوة الشامتين وقبحهم أكثر من أن تُحصى. ويبقى مرعباً وصادماً ومخيّباً للأمل ومحزناً هذا الدرك الأسفل الذي انحدر بعضهم إليه. ولكن على من تتلو مزاميرك يا داود، والسواد يعمّ الأرواح، والكراهية المجّانية باتت عنواناً منفرداً للمرحلة.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.