أبو جوليا والزَّفَر الكثير

05 اغسطس 2024

(سعد بن سفاج)

+ الخط -

يوم ثقيل حالك الظلمة استيقظت فيه على نبأ اغتيال إسماعيل هنيّة في قلب طهران. حاولت استيعاب حيثيات الخبر الأليم عبر متابعة القنوات الإخبارية، التي خصّصت ساعاتٍ طويلةً لتغطية الحدث وتحليله، وبثّ ردّات الفعل، ورصد حالة الغضب والسُّخْط في الشارع الفلسطيني، وفي معظم العواصم العربية. وراعتني في نحو خاص حالة الشماتة والفرح لدى بعضهم في مواقع التواصل الاجتماعي، التي عبّر عنها من دون خجلٍ من يطلقون على أنفسهم مُؤثّرين، من العرب المُتصهينين، وهم من الواقعين في غرام الكيان المُحتلّ، و"المضبوعين" بخطابه المُلفَّق، المُستسلمين بكلِّ ذُلٍّ وهوان لإملاءاته الجائرة، يروّجون ديمقراطيته الكاذبة، ويعملون لتجميل صورته الكريهة القبيحة، التي باتت مكشوفةً لإحرار العالم، سعداء باغتيال هنيّة وكأنّ لهم ثأراً شخصياً مع الرجل لمُجرَّد اختلافهم معه في المُعتقَد والتوجّه السياسي.
اللافت دائماً أنّ معظم اللادينيين العرب يأخذون الموقف الموالي للكيان نفسه حرفياً، من دون زيادة أو نقصان، وكأنّهم يتلقَّون التوجيهات من جهة واحدة، فيُمعنون في مهاجمة كلّ ما يتعلّق بثقافتنا. ولحسن الطالع، فإنّ تأثيرهم يَظلّ محدوداً لا يتجاوز بضعة آلاف من المُضلَّلين، لذلك لن ينجحوا مهمّا خصصوا الساعات الطويلة في مواقع التواصل للسخرية من عذابات الشعوب المقهورة، ولتزوير الحقائقِ الواضحةِ وضوحَ شمسٍ ساطعة، ولتجاهل معاناة الأبرياء المدنيين، الذين يتعرّضون في مدار الساعة للقتل والتهجير والجوع والتشريد.
ومهما بلغت درجة استفزازهم وانفصالهم عن الواقع، وتواطؤهم مع المُحتلّ، يمكن إدراك دوافع سلوكهم المُخزِي. أمّا ما لا يمكن استيعابه، فهو البلادة وقلّة الحساسية والخدر، الذي أصاب بعض المُؤثّرين المحسوبين على فلسطين، أصحاب ملايين المتابعين، مثل الشيف الفلسطيني الغزّي أبو جوليا، الذي أطلق إعلاناً بالغ السوء، من حيث التوقيت والمحتوى، مُبشّراً أهل الأردن بافتتاح مطعمه في عمّان في اليوم الذي اغتيل فيه رمزٌ فلسطينيٌّ، قد تختلف معه في مراهنته على إيران، التي ثبت أنّ المُتغطّي بها بردان، لكنّك لن تتمكّن إلا من احترام مبدئيّته وشجاعته، وصموده الأسطوري في المحن، رغم محاولات التشويه البائسة، التي طاولت الراحل بعد تصفيته بيد الصهاينة. لم يحترم الشيف الفلسطيني، ابن غزّة، فورة الدم وأحزان أبناء جلدته، ولم يُفكّر من باب اللياقة تأجيل الإعلان بضعة أيام، وإعلان الحداد، إذ لم يحتمل فكرة الخسارة المادّية (لأنّ "الرزق يُحبّ الخفّية")، بغضّ النظر عن أعداد الشهداء التي تتزايد بين لحظة وأخرى، ولم يُقصّر بعض المتابعين محتواه، فأسمعوه ما ينبغي من الإدانة والتنديد باستهتاره بالمأساة الدائرة منذ ما يقارب السنة. لم يكتفِ الشيف الشهير بهذا التصرّف المُستهجَن، بل روّج، وهو يرشد زبائنه المُحتملين من خلال إعلانه، لمطعم ماكدونالدز ومحطة توتال، المُجاوِرَين لمطعمه الجديد، وقد فاته أنّ الأردنيين يقاطعونهما ومُؤسّساتٍ أخرى، منذ بدء حرب الإبادة الغاشمة على أهلنا في غزّة الذبيحة، بعد ثبوت مساندة تلك الجهات، بالوثائق، العدوَّ المجرمَ في عدوانه الهمجي على الأطفال والنساء والشيوخ.
من هنا، لا بدّ من ردع مثل هذا النموذج المُؤسِف من خلال مقاطعة مطعمه ومحتوى قناته الزاخرة بالمأكولات والحلويات، وبكثير من الزَّفَرِ، في الوقت الذي يموت فيه أطفال غزّة جوعاً وعطشاً فيما الشيف يتلمّظ ويأكل بشراهة أمام الكاميرا مُتغزّلاً بأطباقه واسعة الانتشار، في تجاهلٍ صادمٍ لما يدور في وطنه الجريح في اللحظة نفسها، من انتهاكاتٍ سافرةٍ لا يسكت عنها إلّا كلّ مُعتَدٍ أثيم.
الرحمة لروح إسماعيل هنيّة، وقد بذلها فداءً للوطن، والخِزي والعار للمتصهينين العرب من الذين خلعوا ورقة التوت. أمّا أبو جوليا، وأمثاله، فالمرء يحار في تصنيفهم وتوصيفهم، لأنّ الأذية من ذوي القربى تجرح عميقاً وتجعلنا نخاف من عمق يأسنا حقّاً "ما فيش فايدة، وعلى الدنيا السلام".

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.