في معنى يوم الأرض

29 مارس 2014

فتاة تلوح بالعلم الفلسطيني (Getty)

+ الخط -

هو يومٌ واحدٌ في العام، لكن معانيه ومضامينه لا تغيب لحظةً عن حياة الفلسطينيين في وطنهم المحتل، في واقعتي 1948 و1965. ليس ولعاً منهم بالرموز والإيحاءات، بل لأنَّ ارتباط الفلسطيني بهذا الوطن هو القضية التي تعمل إِسرائيل، بكل إمكانات التوحّش لديها، وبالدأب العدواني المعلوم، على ضرب هذا الارتباط وإِضعافه. تتوهّم أَنَّ في وسعها هذا الأمر، فيفاجئها الفلسطينيون بأَنَّ يوم استشهاد ستةٍ منهم، يحملون جنسيتها قسراً، قبل ثمانية وثلاثين عاماً، في غضبةٍ وطنيةٍ جامعةٍ تصدّت لمصادرة أَراضٍ في الجليل المحتل، لا يمكن أَن يكون عابراً وتائهاً بين جوائح، غير قليلة، غالَبها الفلسطينيون في مسيرة الآلام والتضحيات والصمود والثبات.

كان يوماً أَكَّد البديهي، وموجزه أَنّ فلسطين وطنُ ناسِها وأَصحابها، وهي المملّحة أَرضُها بدموع أَبنائها ودمائهم وعرقهم. فلا يـ"تأسرل" الفلسطينيون إِذا انتصرت عصابات الصهاينة على جيوشٍ عربيةٍ بائسة، فقامت لهذه العصابات دولة احتلال، ولا يعترفون بهذا الاحتلال قضاءً وقدراً لا مساحةَ لإبداعٍ نضاليٍّ في مقاومته، وفي صدّ اعتداءات التهجير والاقتلاع والتهويد التي تنشط حكومات الاحتلال في اقترافها. كان يوم الأرض، في عرّابة وسخنين وكفر كنا ودير حنا، وفي كل الجليل والمثلّث، محطةً استنفر فيها فلسطينيو النكبة الأولى طاقتهم الخلاّقة في الكفاح، بوسائله السلمية الاحتجاجية، ضد شهوة الفتك الإسرائيلية بأرضهم.. ولا مسافة بين أرضهم وأرواحهم.

أَهوالٌ واعتداءات، وجرائمٌ واجتياحاتٌ واغتيالات، لا عدّ لها، توالت في أَرشيفٍ مُثقلٍ بوطأة الاحتلال الشنيع في فلسطين، لكنها، وغيرها، معطوفاً إليها ما مضت فيه إِسرائيل من استيطان ومصادرة أَراضٍ في القدس والنقب والخليل وقطاع غزة، بل في كل فلسطين، الموحّدة وطناً وشعباً، لم تنحّ يوم الأرض البهيّ من مطرحه في ذاكرة الفلسطينيين، وإنْ أثقلتها مذابح في خان يونس وصبرا وشاتيلا وجنين ودير ياسين والفاخورة وتل الزعتر، مثلاً. لم يبق يوم الأرض خالداً لأن ستة شهداء سقطوا فيه، (خير ياسين، رجا أَبو ريّة، خضر خلايلة، رأفت الزهيري، حسن طه، خديجة شواهنة) فحسب، بل لأَنَّ البوصلة فيه شديدة الوضوح في وجهتها، وهي أَنَّ ما ترتكبه إِسرائيل، وما تبتدعه من أَوهامٍ خائبة، قبضُ ريح. وإِذ تعمل، منذ أسابيع، على جرّ المسيحيين الفلسطينيين إِلى مشروعها، بتجنيدهم في جيشها، وإِذ تدمّر قرية العراقيب في النقب عشرين مرة، وإِذ تستهدف عزمي بشارة بقوانين وأَحكام تافهة، وإِذ تظن أن  لديها قدرةً على انتزاع اعترافٍ فلسطيني بيهوديتها، إِذ تفتعل هذا كله، وكثيراً غيره، فإنها لم تقع بعد على المعنى الجوهري لتخليد الفلسطينيين، في وطنهم المحتل وشتاتهم، ذكرى يوم الأَرض كل عام، لا بالأغاني واستدعاء الرمزيات والنوستالجيا فحسب، بل، أَيضاً، بتذكير العالم بأنهم لا يعتنقون غير فلسطين وطناً لهم، قابضين على ترابه، ولاجئين ونازحين، وأَينما أقاموا وأنجبوا أبناءً وأحفاداً.

لا تدري عصابات إِسرائيل الحاكمة أَن تحويل مقبرة إسلامية تاريخية في بلدة العباسية، المُصادرة منذ 1948، إلى حديقة ألعاب لأطفال المستوطنين، يستنفر اعتصاماً ساخطاً في عمّان يُبادر إليه، قبل أَسابيع، عديدون من هذه البلدة، وبينهم كثيرون لم يروا العباسية، لكنهم توارثوا اسمها، وتمسّك وجدانُهم بها. ونحدس أَن هذا من بعض المعاني الحارّة، والكبرى، ليوم الأرض، المتّصل بكل أَيام الكفاح الفلسطيني، والانتفاضات والهبّات، في الجليل والمثلّث والنقب والقدس، في نابلس ودير البلح وجنين ورام الله ومخيمي الدهيشة وبلاطة، في نهر البارد ومخيمي البقعة وبرج البراجنة. الفلسطينيون في هذه المطارح، وغيرها في قارات الأرض كلّها، يدينون لصنّاع الأَرض بحماية ذاكرتهم ووجدانهم، إِليهم سلام.

دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.