في مديح غواية الصوت
تروي مذيعة مونت كارلو الشهيرة، هيام حموي، أن شخصا جاء يوما إلى مبنى الإذاعة طالبا مقابلتها. وحين أخذ إلى غرفتها وجد امرأة سمراء قصيرة وممتلئة الجسم وتضع نظارات سميكة على عينيها، طلب منها أن يقابل هيام حموي، فقالت له: أنا هيام... لم يستوعب الرجل الأمر، فقال أريد مقابلة المذيعة هيام حموي، فأكّدت له، بصوتها المدهش، أنها المذيعة هيام حموي. أصيب الرجل بصدمةٍ كبيرة، إذ كان يتخيّل أن صاحبة ذلك الصوت لا بد وأن تكون امرأة بارعة الجمال، تشبه نساء الأساطير. ومع ذلك، لم تمنعه صدمته من الجلوس والاستماع إليها مفتونا، كان صوتها العصا السحرية التي نحّت الصدمة جانبا، مبقيا على الخيال، كما كان سابقا قبل أن يقابلها.
لم تكن المغنية الفرنسية الأشهر عالميا في تاريخها، إيدث بياف، تتمتع بمواصفاتٍ جسديةٍ جميلة، إذ كانت ضئيلة الجسم، لا يتجاوز طولها 147سم، وملامح وجهها أقلّ من عادية، ومع ذلك وقع في غرامها أشهر رجالات الفن والثقافة ذلك الوقت. وتزوجت، أولا، من بطل العالم في الملاكمة، الفرنسي مارسيل سردان، ثم من الممثل والمغني الفرنسي، إيف مونتان. وارتبطت عاطفيا بمغنين وممثلين عديدين من ذوي الشهرة العالمية، منهم مارلون براندو، ساحر النساء في العالم. وعلى الرغم من أن إيدث بياف أصيبت بالاكتئاب الحاد منذ وفاة طفلها بالتهاب السحايا، وتبعه زوجها مارسيل سردان في حادثة طيارة، إلا أن الذين ودّوا رفقتها كانوا بمثابة الظاهرة، إذ كان للمزيج الغريب بين صوتها الاستثنائي وحزنها الأبدي (عانت طفولة قاسية جدا) وهشاشتها الأنثوية سحر خاص وجاذبية نادرة جعلا منها امرأة فائقة الجمال، كما لو أن الصوت هو الجنّي الذي يلمس، بأصابعه السحرية، كل شيء، فيتحول إلى جمال خارق.
يمكننا متابعة الحديث نفسه عن أم كلثوم، أسطورة الغناء الحسي العربي، التي فتنت كل الرجال الذين كانوا حولها من شعراء وملحنين عظماء، حتى ليقال إن كل ما كتبه أحمد رامي كان في عشقها شخصيا، وإن أهم ألحان محمد القصبجي كانت نتيجة لوثة هيامه بها. يحكى أيضا عن رجالٍ كثيرين تودّدوا لها ووقعوا في غرامها، على الرغم من أنه لا يمكن القول إن أم كلثوم كانت امرأة جميلة. وعلى عكس إيدث بياف الهشّة والمكتئبة، كانت أم كلثوم تتمتع بشخصية سلطوية وقوية حد القسوة، وكانت تتمتع بحس الفكاهة إلى حد أنها كانت تهزأ حتى من أقرب الناس لها، من دون أن يجعلهم هذا يكفّون عن عشقها. كان صوتها هو الأصل، هو منبع سطوتها وقوتها وسحرها وشغف الرجال بها، ولا أحد يعرف الآن هل كان الذين حضروا حفلاتها شخصيا يهيمون بسبب صوتها الخارق فقط، أم كان خيال الرجال الحاضرين يذهب في الغواية، حيث يحوّل الصوت الخارق صاحبته إلى جمالٍ خالصٍ يتعبّده المريدون الكثر.
تختلف فيروز عن أم كلثوم وعن غيرها من المغنيات العظيمات، بأنها تحوّلت إلى ما يشبه الأيقونة المقدّسة، فصوتُها الذي يوصف بالسماوي، مع الألحان المستمدّة من مزيج الطرب الشرقي والموسيقى الكنسية، مع الشعر الذي غنته، والذي كان رومانسيا صافيا، لا مكان فيه للحسّية التي كانت في المدرسة المصرية الغنائية، مع انزوائها وابتعادها عن الحضور العلني إلا في حفلاتها ومسرحياتها، بحيث كان سلوكها شبيها بصوتها، ملائكيا متعاليا عن الأرض. وهو ما كرسه أيضا عاشقوها من الشعراء، في كتاباتهم عنها، كأنسي الحاج وجوزيف حرب، وغيرهم كثر. حتى البورتريهات التي رُسمت لها لا تشبه ملامح وجهها العادية التي لا تخلو من مسحة جمال، لكنها ليست جميلة بالمواصفات العامة (من أوائل من خضعن لعملية تجميل أنف). كانت البورتريهات تشبه صوتها، تشبه الطريقة التي يحبّها بها من يرسمها، بورتريهات لا يمكن أن تكون لموديل صريح، إنما لموديل متوارٍ خلف ستارة الصوت الذي يكشف ما يدل عليه خيال الغواية، خيال الرسام حين يتبع الصوت المغوي فيجرّد صاحبه من العيوب، ليصبح الوجه المرسوم بخطوط مثاليةٍ ملائكيا، يشبه ملائكيّة الصوت، ويشبه الأيقونة المقدسة التي يوضع من لا يعجب بها في خانة الزندقة.
أفكّر بعمليات التجميل المخيفة التي تلجأ إليها مغنيات ومذيعات أيامنا هذه، ليس السبب فقط انتشار طب التجميل بشكلٍ كثيف، بل أيضا للتعويض عن نقصان الموهبة والأصوات الهزيلة بالشكل الجميل، لتصبح الحالة معاكسةً عما كانت عليه سابقا، كان الصوت يفرض الجمال على الحواس، صار التجميل يحاول فرض الصوت على الحواس من دون فائدة.