في فرص اتفاق ثنائي سعودي أميركي
بعد تقديراتٍ في صحف غربية أن الولايات المتحدة والسعودية ذاهبتان إلى اتفاق ثنائي لترتيب العلاقة بينهما، عاد مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، ليؤكد أن أي "صفقة" لا يمكن إلا أن تكون ثلاثية، رغم أن حكومة نتنياهو ترفض القبول بمبدأ حلّ الدولتين الذي تشترطه السعودية للتطبيع معها. يقول سوليفان: "رؤيتنا المتكاملة تتمثل في تفاهم ثنائي بين الولايات المتحدة والسعودية، مصحوب باتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية، يتزامن مع خطواتٍ ملموسةٍ لمصلحة الشعب الفلسطيني، ويتعيّن أن يتحقّق ذلك كله في آن واحد. لا يمكن فصل قطعة عن بقية القطع الأخرى". لكن، ما هي عناصر الاتفاق السعودي - الأميركي المحتمل في ضوء تغيّر طبيعة المصالح التي كانت تربط الطرفين خلال الحرب الباردة، وهما اثنتان "النفط ومحاربة الشيوعية بالإسلام"، كما قال جون فوستر دالاس، وزير خارجية إدارة دوايت آيزنهاور، في العام 1957؟
شكّل اتفاق "النفط مقابل الحماية" الذي توصلت إليه واشنطن والرياض عام 1945 ركيزة العلاقة بين الطرفين نحو نصف قرن، وبموجبه تعهّدت الأولى بضمان أمن الثانية والدفاع عنها في مقابل التزام الثانية بتوفير إمدادات نفط دائمة ومستقرّة وبأسعار معقولة للغرب والاقتصاد العالمي. على الأثر، استقرّت قوات أميركية في قاعدة الظهران العسكرية شرق السعودية، (صارت لاحقا قاعدة الأمير سلطان). كما لعبت السعودية دوراً بارزاً في هزيمة الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي، سواء بدعمها الجهاد الأفغاني أو بضخ كمياتٍ كبيرة من النفط في السوق العالمية، ما أدّى إلى انهيار الأسعار ودقّ المسمار الأخير في نعش الاقتصاد السوفييتي. في العام 1974 تم التوصل إلى اتفاق آخر "سري" اعتبر مكملا لاتفاق 1945 وتعهدت بموجبه السعودية باستثمار عوائدها النفطية التي أخذت تتضخّم بشكل كبير بسبب تضاعف أسعار النفط بعد حرب 1973 في سندات الخزينة الأميركية، أي في شراء الديون الأميركية التي أخذت تتنامى سريعا بعد أن اتخذ الرئيس نيكسون قراره الشهير بفك الارتباط بين الذهب والدولار، ما أسهم في إنقاذ الاقتصاد الأميركي حينها، واستمرّ العمل بهذا الاتفاق نحو أربعة عقود الى أن جرى الكشف عنه عام 2016.
لكن كل تلك المصالح الجوهرية لم تعد قائمة، فالاتحاد السوفييتي صار تاريخاً، كما سقطت صيغة "الأمن مقابل النفط"، بعد أن تحوّلت الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للطاقة في العالم (13 مليون برميل من النفط يوميا، وأكثر من تريليون متر مكعب من الغاز سنويا)، ولم يعد لدى السعودية فائض أموال لتستثمرها في سندات الخزانة الأميركية في ظل المشاريع الكبرى لرؤية 2030. وهذا كله يفسّر فترة الجفاء وانعدام الثقة التي سيطرت على العلاقة بين الحليفين التاريخيين في السنوات الأخيرة. مع ذلك، أعلن الطرفان الأسبوع الماضي عن قرب التوصل إلى صيغة جديدة للعلاقة بينهما قد تكون بأهمية صيغة 1945. بموجب الاتفاق الجديد، تضمن الولايات المتحدة أمن السعودية من خلال اتفاق دفاعي (قريب من الصيغة القائمة مع اليابان وكوريا الجنوبية)، وتزويد السعودية ببرنامج نووي لأغراض سلمية (إنتاج الطاقة والأبحاث وغيرها) إضافة إلى إنشاء شراكة في مجال الذكاء الصناعي وتكنولوجيا المعلومات. في المقابل، تتعهّد السعودية بأن تصبح سياساتها أكثر انسجاما مع السياسة الأميركية، وخاصة جهودها لاحتواء الصين وروسيا وإيران. هذا سيتطلب من السعودية تقييد علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع الصين، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين الطرفين حاليا نحو مائة مليار دولار سنويا، كما يتطلب فك اتفاق أوبك+ الذي تقوده السعودية مع روسيا لضبط أسواق النفط، والعودة بالعلاقات مع إيران إلى ما كانت عليه قبل اتفاق العاشر من مارس 2022. لكن هذا يمثل جزءاً فقط من "الرؤية المتكاملة" التي تحدّث عنها جيك سوليفان، والتي تشمل تطبيعا بين السعودية، ودول خليجية أخرى، وإسرائيل، لمواجهة إيران، وتعاوناً أوثق مع الهند، لمواجهة الصين، وتكاملاً مع أوروبا لاحتواء روسيا، ما يحيلنا إلى مشروع الممر الاقتصادي الهندي - الشرق أوسطي الأوروبي، الذي لا يمكن أن ينطلق من دون حل القضية الفلسطينية، حيث تحاول واشنطن استخدام عوائد التطبيع الخليجي "كجزرة" لإقناع نتنياهو بوقف الحرب على غزّة والموافقة على صيغة حلّ الدولتين، فهل تنجح في ذلك؟