حسابات النظام السوري وأولوياته
يثير موقف النظام السوري من الصراع الدائر في المنطقة بين من يفترض أنهم حلفاؤه (محور إيران) ومن يفترض أنهم أعداؤه (محور إسرائيل) تساؤلات كثيرة، فالنظام السوري يتصرّف وكأنه غير معني تماماً بما يجري، رغم أنه من أكثر المتأثرين بتداعياته. وإذا كان موقف النظام من حركة حماس مفهوماً، بسبب دعمها الثورة السورية في سنواتها الأولى، فإن موقفه، منذ انتقل تركيز إسرائيل إلى لبنان أواخر الصيف، حيث تلقّى حليفه الأقرب (حزب الله) ضربات قاتلة، يبدو مستغرباً. حتى إيران، التي بنت عقيدتها الدفاعية حول ما تسميه "الدفاع المتقدّم"، وهي تسمية "ناعمة" لحروب الوكالة التي تخوضها بدماء العرب (لبنانيين، سوريين، فلسطينيين، عراقيين، يمنيين) وغير العرب (أفغان، باكستانيين، أذريين ... إلخ)، اضطرت أخيراً إلى الخروج من مخبئها والرد بنفسها على إسرائيل، في حين ظل النظام السوري متمسكاً بـ "سياسة النأي بالنفس" عن صراع سيحدّد مستقبل المنطقة عقوداً عديدة. ويمكن، بعيداً عن المناكفات السياسية، تفسير موقف النظام السوري بعاملين رئيسين: الأول، بنيوي، ويتلخص بضعف النظام الذي بات يفتقر إلى القدرات العسكرية والإمكانات المادّية للدخول في صراع مع إسرائيل، حتى دفاعاً عن نفسه، بعد أن بدّد كل قوته في الحرب المديدة التي خاضها ضد شعبه. وإذا كان النظام يتجنّب في أوج قوته الاصطدام بإسرائيل، فما بالك وهو منهك، وحيث الأثمان المترتبة على ذلك أكبر. العامل الثاني مرتبط بحسابات براغماتية بحتة، حيث يرى النظام في المواجهة الحالية مجموعة من الفرص والمخاطر، يحاول اغتنام الأولى وإبعاد الأخيرة.
منذ انتهاء العمليات العسكرية الكبرى ضد المعارضة عام 2020، وربما حتى قبل ذلك (2018)، بدأ النظام يدرك أنه بعدما نجا بنفسه، بمساعدة حلفائه. بات يحتاج إلى دعم اقتصادي لن يجده إلا عند أعدائه (في الخليج خصوصاً)، لضمان استمراره، فأخذ ينفتح عليهم. لكن سنوات من محاولات التقارب والتطبيع لم تسفر عن شيء لأن "الأعداء" الذين تحولوا "أصدقاء" لم يكونوا مستعدين لمساعدته من دون مقابل. وعلى أهميته، لم يكن تهريب الكبتاغون القضية الأكثر إلحاحاً عند هؤلاء، بل عَرَض جانبي لمشكلة رئيسة اسمها إيران. لم يستطع النظام على امتداد الفترة الماضية أن يعطي شيئاً ذا قيمة بهذا الاتجاه، لسبيين: أولاً، أن النفوذ الإيراني كان متجذّراً إلى درجة يصعب تحجيمه نتيجة اختراقه مؤسّسات الدولة ونسيج المجتمع. ثانياً، لا يملك النظام، في حال انسحاب حلفائه، القدرات والإمكانات للسيطرة على الأرض. لهذه الأسباب، كان النظام يعتبر أن الحصول على التمويل اللازم لإعادة البناء، بما في ذلك قدراته الأمنية والعسكرية، بما يمكّنه من إمساك الأرض، هو شرط خروج إيران، وليس العكس.
منذ بداية الحرب على غزّة، ولا سيما بعد توسعها، لتشمل لبنان وإيران، أخذ النظام يرسل إشارات عن استعداده للتعاون. وكان جديدها أخيراً، تغيير وزير الخارجية في الحكومة الجديدة. اللافت هنا أن أحد الشروط الجوهرية التي وضعتها بعض دول الخليج للتطبيع بدأ يتحقق نتيجة جانبية للصراعيْن في غزّة ولبنان (سحب حزب الله جزءاً كبيراً من قواته من سورية لحاجته إليها في لبنان، وتآكل النفوذ الإيراني نتيجة الضربات الإسرائيلية). لكن، مع وجود فرصة لتغيير وضعه الإقليمي والدولي، تبرز أمام النظام مخاطر كبيرة، في المقابل، إذ يخشى أن يؤدّي انسحاب حلفائه إلى فراغ أمني على الأرض يؤدي إلى إضعافه وتجدّد محاولات إسقاطه، وهو يسعى لذلك إلى الحصول على ضمانات بأن شيئاً من هذا لن يحصل، وهو ما يبدو محتملاً في ضوء المواقف التركية أخيراً، وتصريحات الرئيس أردوغان عن رغبته في إنشاء "تحالف" يضم بلاده إلى سورية ومصر لمواجهة الوضع المضطرب في المنطقة!
منطقيّاً، يجب أن يؤدي ضعف الحلفاء (استنزاف روسيا في أوكرانيا، وانكشاف إيران في المنطقة، وحزب الله في لبنان) إلى إضعاف النظام السوري. لكن النظام يحاول تحويل الخطر إلى فرصة يمكن الاستثمار فيها لحجز مكان لنفسه في الترتيبات الجديدة في المنطقة، بدل أن يلتزم بتحالفاته، ويتحوّل إلى "ضحية" لها. لقد حصد النظام السوري كل منافع تحالفاته العتيدة، من دون أن يكون لديه أي نية لتسديد أثمانها، وها هو يجلس، كما يقول المثل الإنجليزي "على السور (on the fence) ينتظر انجلاء غبار المعركة"، غير مكترث لاتهامات جمهور حلفائه بأنه "خانهم".