في علاقة الإعلام التونسي بالسلطة
لطالما كان الإعلام وسيلة دعاية وأداة للتلاعب بالعقول كما يصفه بورديو، بآلياته المتعدّدة التي صارت تخترق كل المساحات، حتى الحميمية منها. وقد زادته الثورة التكنولوجية سلطة وأثرا في حياة الناس، من خلال انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل والوسائط الاجتماعية التي حوّلت جميعها الفرد من متحكّم بأقدارٍ في ما يشاهده أو يسمعه إلى خاضعٍ ومتابعٍ للرائج والسائد المحكوم بعلاقات متشابكة بين السوق والمال والسياسة والجمهور.
كان الإعلام في تونس، قبل الثورة عام 2011، أداة في يد السلطة، والذي كان من السهل وضع اليد عليه، سيما قبل التطوّرات السريعة المستحدثة عليه وانتشار المؤسسات الخاصة وتعدد صيغ البث والنشر المتجاوزة للحدود. كان الرئيس بورقيبة بطل الشاشة الوطنية التونسية عبر صوره وهو يلعب رياضاته المفضلة، خصوصا السباحة. ومن خلال فقرة توجيهات الرئيس التي كانت يومية، يخاطب فيها بورقيبة الشعب للتوجيه والتثقيف والتأطير. كما كان زمن بن علي مرحلة تدجين للإعلام، كغيره من المؤسّسات والسلطات منذ 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987 وبداية تسويق بيان التغيير (الانقلاب على بورقيبة) والفرص القادمة للبلاد والشعب. وانخرطت وسائل الإعلام آنذاك في الدعاية للرجل العسكري الأمني وسياساته وتسويق سردياته في كل المنعرجات والأزمات التي واجهها النظام، خصوصاً مع المعارضة في بداية عهدته، تحت رقابة ووصاية وزارة الإعلام والاتصال.
علاقة دعائية ودفاعية لمصلحة السلطة السياسية تواصلت إلى أيام الثورة وبداية الحراك في بعض المناطق الداخلية في البلاد في ديسمبر/ كانون الأول 2010، نهايتها ليلة 13 يناير/كانون الثاني ببرامج تلفزية تمجيدية تجتهد في تبييض صورة الرئيس المحاصر بغضبٍ شعبيٍّ جراء قتل أكثر من ثلاثمائة محتج بالرصاص، ناهيك بعقدين من القمع والسطوة البوليسية، وصبيحة 14 يناير، اليوم الذي فر فيه بن علي إلى السعودية، ببثّ برامج ترفيهية مسجّلة في تجاهل كلي للمسيرات الهادرة التي غمرت شوارع البلاد ونداءات الجماهير بالحرية والكرامة.
كان إصلاح الإعلام أحد المطالب المرفوعة في أغلب التحرّكات والاعتصامات، بالنظر إلى ما لعبه من دور عقوداً في تزييف الوعي الوطني وتحريفه عن قضاياه الحقيقية
إثر الثورة، كان إصلاح الإعلام أحد المطالب المرفوعة في أغلب التحرّكات والاعتصامات، بالنظر إلى ما لعبه من دور عقوداً في تزييف الوعي الوطني وتحريفه عن قضاياه الحقيقية والجذرية المتعلقة بالحقوق والحرّيات في أبعادها الكبرى، سياسيا وفكريا ودينيا واقتصاديا واجتماعيا، وتبوّئه موقع المنافح عن الأنظمة وتلميع استبدادها وتجريم ضحاياها. إلا أن غياب الرؤية والصرامة والذهاب من حركة النهضة في بداية صعودها إلى السلطة في خيار فتح المجال لمؤسّسات إعلامية بديلة زاد الأمر تعقيدا، سيما بعد تعثر هذا الخيار وفشله.
وسرعان ما استعادت الآلة الإعلامية بكارتيلاتها الكلاسيكية أنفاسها وتوازنها، لتعود بصورة وخطاب جديدين مستفيدة من مناخ الحرية والتعدّدية والتمترسات النقابية وتتحوّل من أداة في يد السلطة إلى عصا غليظة ضدها، ولتمارس تقنيات تلاعبها بالجمهور، فقط من زاوية مختلفة.
حرص الإعلام، بمؤسّساته الخاصة والعمومية، في العشرية الماضية على الدفاع عن استقلاليته وحفظ مسافاته من الأنظمة المتعاقبة ليعبّر عن نفسه سلطة رابعة، ولكنه مارس هذه السلطة بتحيّز ضد السلطة المنتخبة، وتجنٍّ واضح في مواضع عديدة على المسؤولين وبعض السياسيين والأحزاب، وبانتهاج ترذيل بعض الشخصيات السياسية وفتح المجال باسم حرية التعبير للتهجّم والتطاول عليهم أو محاكمتهم، أو حتى لتهديدهم بالقتل، مثل ما حصل في إحدى المحطّات الخاصة سنة 2013 بمشاركة أحد المتطرّفين في حوار تلفزيوني وتهديده وزير الداخلية، علي العريض، آنذاك بالاغتيال، لموقفه الحاسم من نشاط ما تسمّى "أنصار الشريعة".
محطّات متعدّدة أبرزت التحيز والتحامل الإعلامي ضد حركة النهضة أساسا لمصلحة المعارضة في السنوات الثلاث للترويكا في الحكم، ثم لمصلحة نداء تونس والرئيس الباجي السبسي ثم لمصلحة رئيس الحكومة يوسف الشاهد سليل "نداء تونس" ودوائره، والعجيب أن كل واحد من هؤلاء يتعرّض للقصف الإعلامي بقدر اقترابه من حركة النهضة.
صمتت الآلة الإعلامية العميقة أمام اقتحام البوليس مؤسّسة التلفزة الوطنية، كما رحّبت، في البداية، ببعض المحاكمات السياسية
بلغ انحراف حرية الإعلام إصدار قرار من الجامعة العامة للإعلام التابعة للاتحاد التونسي للشغل عام 2020 بمقاطعة حركة ائتلاف الكرامة، ومنعها من المشاركة في الحوارات والحضور الإعلامي، رغم تمثيليّتها النيابية وحضورها الجماهيري بدعوى تصريحات الفتنة والتحريض من قيادات الحركة على إعلاميين وسياسيين، وتزامن ذلك مع معارضة ائتلاف الكرامة القوية والعلنية لسياسات الاتحاد التونسي العام للشغل وتحرّكاته، وتقدمه بمشروع تعديل نيابي للمرسوم 116 للإعلام، كان قد أثار جدلا بسبب بعض بنوده، وأهمها إلغاء وجوبية الحصول على ترخيص عند إطلاق مؤسّسة إعلامية تلفزيونية أو إذاعية، وتعويضها بتصريح بالوجود. وتخلّلت هذه المرحلة السياسية أخطاء من الطبقة الحاكمة، وفي مقدمها حركة النهضة المشاركة بتفاوت في السلطة، إلا أن التعاطي الإعلامي مع تجربة الديمقراطية كان قطاعيا وأيديولوجيا بحتا في مجمله، باستثناءات شاذّة في البرامج والأشخاص، ما دعا إلى الريبة في إيمان طيفٍ واسع من النخب الإعلامية بقيم الحرية والتعدّدية، وفي إتقان مهنتهم بموضوعية بعيدا عن خلفياتهم الفكرية وميولهم السياسية، خصوصاً مع استحضار سياقات نشأتهم في أنظمة الاستبداد.
باركت هذه الآلة الإعلامية العميقة التي ادّعت سنوات الثورة إيمانها بالديمقراطية وحرصها على مدنية الدولة ونافحت عن استقلاليتها العريضة بشراسة خلال مشاركة الإسلاميين في السلطة ورفضت تعيين الدولة مسؤولين على مؤسّسات إعلامية حكومية تحت شعار إعلام عمومي وليس حكوميا، باركت انقلاب 25 يوليو، واعتبرته حدثا فارقا في تاريخ البلاد وصمتت أمام اقتحام البوليس مؤسسة التلفزة الوطنية، كما رحّبت، في البداية، ببعض المحاكمات السياسية وتغافلت عن الانتهاكات الحقوقية، ظنّا منها أن ما يصيب خصومها الفكريين لن يصيبها، إلى أن نال بعض الصحافيين والمحللين ورؤساء المؤسّسات ما نالهم من إيقاف وتتبعات وتضييقات، لمجرّد نقل خبر أو توصيف حدث أو نقد مسؤول.
فرضت تضييقات وضغوط حالة من الخوف والارتباك لدى بعضهم فيما استقبلها آخرون بالورود، ورغم بعض التناقضات في المصالح بين السلطة الحالية والإعلام، فإن ما يجمعهم، على ما يبدو، أكثر مما يفرّقهم، وأهمه مواصلة ترذيل عشرية الثورة وتشويه العملين، الحزبي والحقوقي.