في سقوط آخر قلاع الربيع العربي
أنهت انتخابات الرئاسة التونسية جولاتها بإعلان فوز الرئيس قيس سعيّد لولاية ثانية متقدّماً على منافسيْه، المعتقل العياشي الزمال والمترشح زهير المغزاوي، بفارق كبير في النسب والأصوات، بحسب ما أعلنته هيئة الانتخابات.
حرّك الزخم الانتخابي الساحة السياسية التونسية بأقدار واسعة، فدار جدل بشأن المترشحين والقانون الانتخابي وسلوك السلطة التعسفي، وشمل النقاش في صفوف المعارضين والمهتمين بالشأن العام خياري المشاركة والمقاطعة في الانتخابات، إلا أن أزمات الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة، سواء أسدلت الستار على الأمل في التغيير، وأسقطت آخر قلاع الربيع العربي.
لقد كان تمشّي السلطة واضحاً في رفض حدوث أي هزّات في مسار الانقلاب والحاجة إلى شرعنته فقط عبر صناديق الانتخابات، من دون مبالاةٍ بالأضرار الجوهرية والجانبية الناجمة عن إلغاء شروط التنافس النزيه وشفافية العملية الانتخابية، وهذا طبيعي أن تأتيه مجموعة ممن استولوا على الحكم عنوة، ثم استعملوا كل الأساليب لإلغاء خصومهم، أن يجتهدوا في حماية أنفسهم ومناصبهم من مآلات شرور أفعالهم.
أثبت طيف واسع من التونسيين تمسكه بالمنظومة الحاكمة، عبر التصويت المباشر لمرشّحها سعيّد
في مقابل ذلك، غاب الوضوح عن ممارسة المعارضة سيما في رؤيتها للمحطة الانتخابية وآفاق الحراك السياسي "المؤقت"، وعجزها عن استثمار اللحظة المتزامنة مع شعور عام بفشل السلطة، إذ لم تستطع هذه المعارضة، بجميع أطيافها، أن تنتج خطاباً واضح المعالم يجمع بين تقييم عشرية الديمقراطية وتفكيك سلوك النظام بعد إنقلاب 25 يوليو (2021)، وتطرح برنامجاً سياسياً أو خطة عمل جادة للإنقاذ.
تجلّى هذا التخبّط في الانقسام الحاد بين خياري المشاركة والمقاطعة، واصطفاف جزء واسع من الأحزاب والشخصيات السياسية المعارضة مع مقاطعة الانتخابات، من دون تقدير مآلات هذا التوجّه، والخطوة التي تليه، حيث عبّرت هذه الدعوات عن حالة يأس ذاتية تعيشها نخب تونسية، وفي وجه آخر كشفت عن أنانية فجّة، حيث لا ترى بعض الشخصيات الحل سوى في حضورها الشخصي، ولا ترى بعض التنظيمات الحزبية تقدّماً إلا تحت رايتها، كما أبرز هذا الموقف أيضاً قصووية بعض الفاعلين الآخرين الذين لا يجيدون التفاعل مع ديناميات الواقع وفرص التغيير والإصلاح وفق المتاح والممكن، ويتمسّكون بأستار أضغاث أحلام، ربما تدفع ثمن ثبوت نبوءتها أجيال.
استطاع قيس سعيّد أخيراً توفير غطاء دستوري وشعبي لحكمه، مستمدّاً إياه من صناديق الاقتراع، مهما كانت نسب المشاركة وفوارق الأصوات بين المترشّحين، ومهما اختُلف في صحتها، مستفيداً في ذلك من أخطاء خصومه الذين تقاطعوا معه في تثبيط المواطنين عن ممارسة حقوقهم، وتوسيع الهوة بين العامة والحياة السياسية الذي تجلى في حجم العزوف الانتخابي (أكثر من 70% من الجسم الانتخابي)، والنظر إلى الشأن العام بنظّارات الأيديولوجيا والحسابات الضيقة.
ومثل ما برهن جزء من التونسيين تمسّكهم بالديمقراطية وحرّياتهم، سواء بالمشاركة في الاحتجاجات والانتخابات، أثبت طيف واسع تمسكه بهذه المنظومة الحاكمة، عبر التصويت المباشر لمرشّحها سعيّد، إلى جانب تجنّب الجزء الأكبر من الشعب الانخراط في الجدل القائم، وهو ما يمثل السؤال الأهم لكل الفاعلين والباحثين السياسيين، عن أسباب تصويت أكثر من مليوني تونسي لقيس سعيّد رغم الحصيلة الصفرية في عهدته الأولى، وتراجع ظروفهم الاقتصادية ومكاسبهم الحقوقية خلالها، ورغم رفضه مؤخراً المشاركة في البرامج التلفزية للتعبير عن برنامجه الانتخابي المجهول، وعدم إفصاحه عن أي ملامح لمشروع اقتصادي واجتماعي يمكن أن يكون سبباً لمنح الناخبين أصواتهم له.
لم تستطع المعارضة في تونس، بجميع أطيافها، أن تنتج خطاباً واضح المعالم
من المهم البحث في التفسيرات السياسية والسوسيولوجية التي تدفع سكان المناطق الأكثر تراجعاً في نسب التنمية في الجمهورية إلى التصويت للمنظومة الحاكمة نفسها، مثل أغلب النتائج في المدن والمناطق الحضرية التي تشير أيضاً إلى تقدّم قيس سعيد بفوارق كبيرة، في أوساط مجتمعية تسجل نسب تمدرس عالية، ومنفتحة على العالم عبر الوسائط التكنولوجية والرقمية، بما يوفر لها الحد الأدنى من المعرفة بالأشياء والقدرة المفترضة على تقدير المصالح.
وهؤلاء الناخبون جزء من دوائر بشرية لا يكفّ المواطن فيها عن التذمّر من غلاء المعيشة وندرة المواد الغذائية الأساسية وغياب التنمية والاستقرار في البلاد، وغيرها من عناوين غاضبة، في مقابل ذلك، كانوا سبّاقين في تثبيت الوضع القائم، إما بسبب دعاية أجهزة الدولة لمرشّحها، وإما بسبب رفض العودة إلى مسار الديمقراطية، وإما بسبب غياب البديل الذي يوفر للناخبين الشجاعة والقناعة لتجاوز الراهن، جميعها أسباب واردة.
مؤكّد أن هذا السلوك الانتخابي يمثل تصويتاً عقابياً للجميع، بداية بأنفسهم مواطنين يبحثون عن ظروف عيش أفضل، حيث تؤكّد كل المعطيات أن الفترة المقبلة تحت حكم الرئيس سعيّد لن تكون أحسن حالاً من قبل، وكفى بمستشرفي المستقبل القريب التمعّن في ما تضمنه مشروع قانون المالية لسنة 2025 من ضغط جبائي عبر إثقال كاهل الطبقة المتوسّطة (الشريحة العليا)، واتباع سياسة مالية تستنزف السيولة البنكية عبر شراء المؤسّسات البنكية لرقاعات الخزينة، واستهداف الادخار الوطني وتوجيهه نحو ميزانية الدولة، إلى جانب نيات استهداف استقلالية البنك المركزي، بغرض استعماله في التمويل المباشر لميزانية الدولة رغم التحذير من مخاطر الانزلاق في نسب تضخّم عالية.