في حماية أخبار غزّة

30 يوليو 2024
+ الخط -

أسوأ ما في الحروب، عندما تطول خصوصاً، ما تُصبح عليه أخبارُها من رتابةٍ، فلا يصيرُ لسقوط أعدادٍ متتابعةٍ من الضحايا فيها الوقعُ النفسيُّ والإنسانيُّ والشعوريُّ الذي يُفترَض أن يُحدِثه أمرٌ كهذا. وفي علوم الإعلام (ومزاولته بداهةً) أن الخبر لا يكون خبراً إلا إذا كان جديداً، ولو كان من العاديّ المعهود. والحادثُ في أنباء الإجرام اليومي الذي يرتكبُه جيش الاحتلال الإسرائيلي في الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة أنها تتشابه في وتيرتها وتفاصيلها ووقائعها، فالجديدُ اليوم هو الجديد في الأمس وأول من أمس، ... شهداء وضرب مدارس ومستشفيات وتجويع وتعطيش وتهديدات، وبالموازاة لتٌّ وعجنٌ مستمرّان في شأن مفاوضات هدنةٍ أو وقفٍ لإطلاق النار وتبادل أسرى، تُضجرك متابعتُها من فرط ما فيها من تكرارٍ في الأخبار نفسها، عن جولات محادثاتٍ في الدوحة والقاهرة، وتصريحاتٍ من واشنطن، واجتماعاتٍ متتاليةٍ لحكومة نتنياهو، والكلام نفسه منذ ما قبل رمضان الماضي عن مماطلات الأخير وتسويفاته وشروطه. ومع تدافع الصور الشديدة التشابه من غزّة ومخيّماتها ومدارسها ومستشفياتها وخرائبها، على شاشات بضع فضائياتٍ عربيةٍ خصّصت، منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ساعاتها للحدث الدامي هناك، لم يعُد الخبر الغزّي يُحدِث الانشداد الذي كان يُحرزه في أسابيع (أو شهور؟) العدوان الأولى، بل هناك، بين ظهرانينا، منّا وفينا، من يجهَر بملَله من هذا كله، ويطلُب (ممن؟) وقف الحرب، بسبب سأمه اليومي من أخبارها، فسقوط 70 شهيداً اليوم و50 أمس و87 أول من أمس في دير البلح والمواصي والنصيرات وجباليا ورفح و... لم يعُد يبعثُ على الغضب والسخط اللذيْن كانا يستبدّان بنا، وبجوانحنا، قبل شهور، ولم نعُد نُحدّث أنفسَنا عن العجز المريع الذي تقيم فيه الأمة العربية، وهي تتفرّج على مقتلة الإبادة الجماعية هناك. وفي البال أن كثيرين بلا عددٍ أرجأوا، في الأسابيع الأولى، أفراحاً ومناسباتٍ اجتماعيةً خاصّةً بهم، من باب أضعف الإيمان، استشعاراً بوجوب التضامن الأخلاقي مع أهل غزّة، غير أن عدم توقّف العدوان جعَل أضعف الإيمان هذا ينحسر، ثم يغيب.
لا تعني السطور أعلاه أي مسٍّ، لا سمح الله، بالمشاعر الوطنية والإنسانية والأخلاقية في الشعوب العربية تجاه القتل اليومي في غزّة، فالقناعة، من قبلُ ومن بعد، أن ثمّة خيراً وفيراً في الأمّة، ولا تفترض أي افتراضٍ من أي نوعٍ يذهب إلى أي إدانةٍ أو انتقاد في هذا. إنما المقصد هو القول إن ثمّة ما طرأ على الخبر الغزّي، على مستويي التلقّي والاستقبال، أظنّ أن هناك نوعاً من الحاجة إلى الوقوف عنده، وإلى حماية هذا الخبر من رتابةٍ صارت تخدِشُه، وصارت الإثارة فيه ليست في مجزرةٍ يرتكبها المعتدون في مواصي خانيونس أياماً بعد مجزرةٍ سابقةٍ في النصيرات، وإنما في وصول مسيّرةٍ حوثيةٍ إلى تل أبيب، ثم في عدوانٍ صاروخي إسرائيليٍّ على الحُديدة في اليمن. وكذا في صاروخٍ يقتل 12 طفلاً في مجدل شمس واحتمال أن يعقبه عدوانٌ إسرائيليٌّ واسع على لبنان. كيف، إذن، يتحقّق هذا، أي أن نعرف أن حدث استشهاد من يستشهدون اليوم في بني سهيلة في خانيونس مختلفٌ عن استشهاد من استُشهدوا في رفح؟ كيف نُنقذ هذه الأنباء المتسارعة من هناك، ومصوّرة، وبعضُ صورها شديدة الصعوبة وقد يُنصَح بعدم مشاهدتها، من العاديّة، من الأُلفة معها؟ كيف نُبقي على فجائعيّة الفجائعي، وقد كتبْنا وقلنا إن كل الشهداء اليوميين ليسوا أرقاماً، ولكنهم باتوا أرقاماً، سيّما أنّ وسائط الإعلام لا تنقل أسماءهم، ولا تحرص إلا نادراً على توصيفهم، عندما يكونوا من ذوي حيثيّاتٍ مهنيّةٍ، صحافيين أو نشطاء أو أطبّاء أو مسعفين؟
تلك أسئلة (وأخرى غيرُها) تحدّياتٌ ثقيلة، وموضوعةٌ في رسم مؤسّسات الإعلام العربية التي تصطفّ في ضفة فلسطين وإسناد المقاومة ونصرة أهل غزّة. ليس هناك وقتٌ لنقاشٍ كثير، أو ورشات تداولٍ وبحث، وإنما المسألة في ابتكارٍ خلاقٍ ملحٍّ وشديد الضرورة والوجوب، يتوسّل المهنيّة وليس غيرها، يوازي بين الخبر الموثّق الموثوق والتحليل السياسي والاجتماعي والثقافي المبنيٍّ على إدراك سيكولوجيا الجمهور، أو سيكولوجيات الجماهير على الأصح... من يُبادر إلى الاجتهاد والاقتراح في هذا الشأن؟

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.