في حصار بيروت

02 سبتمبر 2016

بيروت تتعرض لقصف إسرائيلي في 2 أغسطس 1982 (أ.ف.ب)

+ الخط -
ليس من الرطانةِ في شيء أن يوصف خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، بعد حصارٍ إسرائيليٍّ أحكم عليها، صيف 1982، بأنه كان حدثاً مفصلياً وانعطافياً في السيرورة الوطنية الفلسطينية، وفي الحال العربي عموماً. اكتملت قبل يومين الذكرى الرابعة والثلاثون لمغادرة آخر فوجٍ من الفدائيين الفلسطينيين (نحو 12 ألفاً) بحر بيروت. وليس في الوسع هنا بسط شيء مما تثيره الذكرى من زوابع المشاعر والخواطر والأفكار، وقد جاء ذلك الرحيل الفلسطيني بعد معركة صمودٍ مضيئة، في أثناء جحيم إسرائيلي شنيع. ولكن، في استعادة مقاطع من شريط وقائع ذلك كله، يتبدّى أن شيئاً من الحيرة كانت لدى ياسر عرفات ورفاقه في القيادة الفلسطينية بشأن البلد الذي سيذهبون إليه. تقرأ، في هذا الشأن، قول محمود عبّاس، في مقابلةٍ مع صحيفة الحياة في 1994، إنه، في أثناء تداول مقترحاتٍ في هذا الخصوص، طُرحت فكرة، كان هو صاحبها، يصفها بأنها مجنونة، وهي استئجار جزيرةٍ يونانية "نعيش فيها في انتظار مقرّ آخر". لا يؤشر عبّاس إلى موقف عرفات، غير أنه يفيد بأن فاروق القدومي طرح الفكرة في أثينا على رئيس الوزراء اليوناني الذي لم يقبلها بأي شكل.
ما تؤكّده إفادة محمود عبّاس (التاريخية؟) هذه أنه صاحب خيالٍ (أيضاً؟). وأن قيادة منظمة التحرير لم تكن تستحسن أن تقيم في بلد عربيٍّ لا ترتاح فيه. ودلّت مناقشاتها على عدم تحبيذ دعوة حافظ الأسد لها للإقامة في سورية، حتى جاءت دعوة بورقيبة للإقامة في تونس، وكانت بمثابة "نجاة"، بحسب عبّاس. ولكنْ، لنتخيّل أن فكرة استئجار جزيرةٍ يونانيةٍ، في تلك الأثناء، وجدت القبول والتنفيذ.. أيُّ إيقاعٍ كان سيستجدّ على الحالة الفلسطينية، مثلاً؟ لماذا كانت السفن التي أخذت أفواج الفدائيين من لبنان إلى شتاتهم الجديد يونانيةً؟ لماذا كل هذا الحضور لليونان، لأثينا، لبحر إيجة، في قصائد فلسطينية غير قليلة، في تلك المرحلة؟
ذلك عن الخروج إلى تونس (وغيرها). أما عن الثمانية وثمانين يوماً، في الغزو والحصار الإسرائيليين، فلا نفع كبيراً من قراءة محمود عبّاس وزملائه في القيادة الفلسطينية، لمن أراد استشعار الحرارة الإنسانية الخاصّة في غضون تلك الملحمة الاستثنائية، اللبنانية والفلسطينية. ثمّة أدبٌ، تمثّل في أشعار وقصص وروايات، أنتجه عديدون، تعلق ببيروت التي كانت تقاوم، وكانت، بناسها وإبداعاتها، تتمسّك بالحياة، وتحارب اليأس، وتسخر من الغازي الذي يستأنس، بحممه وصواريخه، من أجل أن يقتل روح المدينة التي كانت تحمي نفسّها بنفسها، وبضجيج الحب الوفير لها. وإذا كانت قصيدة محمود درويش "مديح الظل العالي" النص الشعري الأكثر شهرةً، وإبداعية، في التعبير عن ذلك المقطع البيروتي الفلسطيني، فهناك يومياتٌ وشهاداتٌ، حاذقةٌ وشديدة الحرارة، دوّنها كتّابٌ كانوا في أتون الحالة، في معركة البقاء والمواجهة، في معاينة المشهد، من زواياه العامة، الإنسانية والمعيشية، والميدانية طبعاً. تضافر فيها الذاتيّ الخاص مع الشاسع العام، وأظنها أضافت إلى أدب اليوميات، المحدود الاعتبارية في المدوّنة السردية العربية، منجزاً مهماً. وفي وسع غير صاحب هذه الكلمات التأشير إلى نصوص أخرى من هذه اليوميات والشهادات، حيث التنويه، هنا، يتم إلى "ذاكرة للنسيان"، يهجو فيه محمود درويش شهر آب، الضجر القاتل. وإلى "آه يا بيروت"، والذي أجاد فيه رشاد أبو شاور تعيين صور مثيرة من الصمود الشعبي. وإلى "عن أملٍ لا شفاء منه .."، وقد صنع فيه فواز طرابلسي من الشخصيّ سرديةً بيروتيةً عريضة. وإلى "بيروت صغيرة بحجم راحة اليد.. "، والذي يكتب أمجد ناصر فيه إن بيروت كانت في ذلك الصيف الدامي "قمراً صغيراً بين فكّي قرش هائل". وإلى "صباح الخير يا وطن"، والذي يكتب فيه رؤوف مسعد إنه كان مرعوباً ومفزوعاً في أثناء غارات الطائرات الإسرائيلية.
كانت واقعة حصار بيروت 1982، إذن، مختبراً إنسانياً ووطنياً متنوعاً. جاء الخيال في خواتيمها على استئجار الفلسطينيين جزيرة يونانية. وجاءت يومياتٌ، في غضونها، على ما يستحقّ أن يُستعاد ويقرأ.







معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.