في تداعيات المعلومات المغلوطة
لكل عصر شروطه وأدواته وحيثياته التي توجب على المجتمع والنظم إدراكها، والتعامل معها بأفضل وسيلة ممكنة. ينطبق الأمر على عصر ثورة التكنولوجيا الرقمية والتواصل الرقمي، الذي أتاح كمية هائلة من المعلومات الموثقة والمغلوطة، الآنية والتاريخية، الإحصائية والوصفية، الخبرية والتوثيقية، كما أتاح للجميع نشر المعلومة بغض النظر عن مصداقيتها. تسبب ذلك في طرح كم هائل من المعلومات يومياً، وربما لحظياً، حتى باتت موثوقية المعلومة أمراً محورياً في أي قضية وشأن، وأصبحت السرعة في التعامل مع المعلومات المحدثة واجبا على كل فرد ومؤسسة ودولة.
انعكس تأثير ذلك على البنى الاجتماعية والسياسية على حد سواء في كل من العوالم المتحضرة والعوالم النامية، لكن طرح تأثير تلك الانعكاسات انحصر في الأوساط الأكاديمية الغربية، في حين همشت في مجتمعاتنا على الرغم من تأثيراتها الجمّة.
يعتقد بعض المفكرين الغربيين أن هناك حاجة ملحّة لتطوير النظم السياسية الديمقراطية كي تتماشى مع متطلبات العصر وحيثياته، بما يخصّ تطوير أداء الحكومات وتسريع آليات اتخاذ القرار، انطلاقاً من سرعة التحوّلات المجتمعية والسياسية والاقتصادية المترافقة مع سرعة التكنولوجيا الحديثة. وكذلك تطوير آليات الرقابة المعلوماتية بما يخص فرز المعلومات وتفنيد المعلومات المغلوطة، نظراً إلى كثافة المعلومات المتداولة وتأثير المعلومات المغلوطة على المجتمع والدولة على حد سواء.
تساهم المعلومات المتدفقة في صناعة رأي عام مؤيد أو رافض من أي قضيةٍ كانت، كما حدث بما يخصّ القرارات المتعلقة بفيروس كورونا، أو كما يحدُث اليوم بما يخصّ الغزو الروسي، فقد ساهمت كثافة المعلومات وتنوعها في انتشار معلومات عديدة مغلوطة حول الفيروس واللقاحات المضادّة له، بما يشمل تأثيرات مضادّات الفيروس الصحية على البالغين والأطفال، الأمر الذي انعكس على موقف المجتمعات من اللقاحات، بين رفضها بالمطلق أو إلزام المجتمع بها.
نلحظ مسارعة الحكومات الاستبدادية عامةً، والعربية خاصةً، إلى تقويض المتغيرات العصرية، بدلاً من تطوير آليات عملها
كان على السلطات التنفيذية اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة بما يخصّ قرارات الإغلاق، واعتماد مضادّات الفيروس، ومدى إلزامية اللقاح، والفئات العمرية المرشحة لتلقي المضادات الفيروسية، إذ لعب الرأي العام المجتمعي دوراً سلبياً أحياناً وإيجابياً في أحيان أخرى في هذا الشأن، تبعاً للمزاج الشعبي العام في لحظة اتخاذ القرار، متأثّراً بالمعلومات المنتشرة حول الموضوع، بغض النظر عن مدى مصداقيتها.
لذلك عملت حكومات غربية كثيرة على تعزيز التواصل بين الحكومات أو السلطات التنفيذية المختصة من جهة، والمجتمع المحلي من جهة ثانية، عبر تكثيف مشاركة صنّاع القرار إعلامياً وتفعيل جميع أدوات التواصل الإلكتروني، من أجل تقديم مصدر رسمي موثوق للمعلومات، الأمر الذي سهّل على المجتمعات التأكد من مصداقية أي معلومة ذات شأن.
حققت تلك الإجراءات العاجلة نجاحاتٍ مهمة، لكنها غير كافية، نتيجة جملة من العوامل، أولها كثافة المعلومات المتداولة، وثانيها تدنّي مصداقية الجهات الرسمية في أوساط واسعة اجتماعياً، وثالثها استثمار جهات سياسية داخلية وخارجية تلك المعلومات، ورابعها ارتباطات الحكومات ومصالحها، وخامسها تقيد السياسات الحكومية بنتائج استطلاعات الرأي العام والحسابات الانتخابية الضيقة.
على الطرف الآخر؛ نلحظ مسارعة الحكومات الاستبدادية عامةً، والعربية خاصةً، إلى تقويض المتغيرات العصرية، بدلاً من تطوير آليات عملها، معتمدةً الأساليب القمعية التي تألفها، حتى فيما يخصّ القضايا غير السياسية، اقتصادية كانت أم اجتماعية، فمثلاً سارعت الحكومة والنظام الأردني إلى حظر نشر المعلومات المتعلقة بقضية الأمير حمزة ذات البعد السياسي والأمني، كما حظرت النشر في ما يتعلق بقضية قتل الطالبة إيمان رشيد، وكذلك في قضية مقتل الكاتب ناهض حتر، تحت ذريعة الحفاظ على سرية التحقيقات وسيرها وكفاءتها!
ساهم التطور التقني والتزايد في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة في استسهال النشر وتعدد الناشرين
كذلك عمدت السلطات المصرية إلى حظر النشر في جملة من قضايا الفساد المالي، وفي قضايا جنائية كما في قضية مقتل شيماء الصباغ والمحامي كريم حمدي وقضية مقتل الطالبة نيرة أشرف. أيضاً سارعت السلطات الروسية إلى تقييد نشر المعلومات المرتبطة باعتدائها على أوكرانيا، عبر سنها قوانين تجيز اعتقال من ينشر معلومات تعتبرها كاذبة أو تشوه سمعة جيشها! كما ألزمت الوسائل الإعلامية نشر المعلومات الصادرة عن الجهات الرسمية الروسية فقط.
لقد ساهم التطور التقني والتزايد في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة في استسهال النشر وتعدد الناشرين، الأمر الذي بلور معطيين جديدين، الأول نشر الأكاذيب والإشاعات بموازاة نشر الحقائق والتفاصيل والمعلومات الموثوقة، والثاني مساهمة الكتلة الاجتماعية في نقاش القضايا المطروحة وطنياً ومساهمتها في صوغ الحلول والمخارج، وصولاً إلى مساهمتها في صنع القرار ذاته.
في المحصلة، تكيفت النظم الحاكمة الديمقراطية مع خصائص العصر الراهن بسرعة ملحوظة؛ لم تكن كافية، عبر مسارعتها إلى تفنيد المعلومات المضلّلة أو الخاطئة، من خلال تعزيز التواصل الحكومي مع المجتمع، ورفع وتيرة تحديث المعلومات الرسمية عبر بيانات رسمية دورية يومية، وأحياناً نصف يومية أو شبه ساعية. في حين صوّبت النخب الثقافية والأكاديمية الغربية سهامها على بنى النظام الديمقراطي التقليدية، باحثةً عن سبل تعديله وتطويره بما يتلاءم مع خصائص العصر الراهن، من أجل إتاحة المجال أمام مساهمة المجتمعات المحلية في آليات صنع القرار. وذلك انطلاقاً من أن النظم الديمقراطية هي، بالتعريف، من آليات حكم الشعب ذاته بذاته. لذا، وبناءً على تطور آليات التواصل وتداول المعلومات يجب إعادة النظر في آليات العمل الديمقراطي التقليدية التمثيلية والانتخابية.
تأثرت الحركات الاحتجاجية الشعبية بخصائص العصر الراهن إيجابياً بما يخص سهولة التواصل والتنسيق وتبادل المعلومات والتحشيد
بينما طوّرت النظم الاستبدادية من آليات الحظر والضبط، من خلال حجب المواقع الإلكترونية وقطع الإنترنت والشبكات الخليوية، وسن جملة من القوانين التي تجرّم نشر المعلومات غير الموثوقة، وتطوير آليات الرقابة والتتبع، بما يؤدّي إلى تقويض أو الحد من قدرة المجتمع على الوصول إلى المعلومة، وبالتالي، تقويض دوره في نقاش القضايا ومعالجتها، ووصولاً إلى استمرارها في إقصاء المجتمعات المحلية عن المساهمة في آليات صنع القرار.
في الختام؛ تجدر الإشارة إلى تأثر الحركات الاحتجاجية الشعبية السياسية والاجتماعية بخصائص العصر الراهن أيضاً، إيجابياً بما يخص سهولة التواصل والتنسيق وتبادل المعلومات والتحشيد، وسلباً بما يتعلق بالسياسات التحريضية الخادعة، القائمة على ترويج معلومات كاذبة أو مبالغ بها في أحسن الأحوال، الأمر الذي قوّض مصداقية جهاتٍ عديدة وموثوقيتها، وأضرّ بالحركات الاحتجاجية المطلبية والثورية على حدٍ سواء.
من ذلك كله، على المجتمعات في الدول الاستبدادية؛ خصوصاً، العمل على مجابهة ظاهرة ترويج المعلومات الكاذبة والخادعة، بغض النظر عن الجهة الناشرة وأهدافها، فحكومات تلك الدول تعمد أحياناً عبر جيشها الإلكتروني إلى نشر معلوماتٍ كاذبة، بغرض تقويض مصداقية المعارضة والحركات الاحتجاجية أولاً، ومن أجل تبرير خطواتها القمعية ثانياً.