في العراق لعبة كلمات غير متقاطعة
قُدِّر للعراق أن يقيم وسط خطوط النيران، ليس بسبب موقعه الجيوسياسي فحسب، إنما أيضاً بسبب خطل سياساته التي رسمها توافق الأميركيين والإيرانيين على السيطرة عليه والهيمنة على قراره. وأيضاً، بسبب حُكّامه الذين أنتجهم هذا التوافق الشرير، وقد افتقدوا الخبرة والنزاهة والحكمة في مواجهة ما يحدث، وما يحيط بنا، وما يجعلنا ننتظر الأسوأ، والأسوأ دائماً.
وهكذا، ما أن تسارعت الأحداث بعد طوفان 7 أكتوبر قبل عام، وتصاعدت حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على غزّة، ثمّ على لبنان، بإسناد مباشر من الولايات المتّحدة والغرب، حتّى شعرنا أنّنا وسط تطوّرات دراماتيكية مبعثها اتجاهان، سعي أميركا والغرب من جهة لإنشاء واقع جديد في المنطقة مكرّس لتحقيق الاستراتيجية الصهيونية التاريخية، التي لم تعد تُخفي أهدافها، وإمساك إيران، من الجهة الأخرى، بفرصتها في طرح نفسها لاعباً إقليمياً ماهراً وشرّيراً، وقادراً على الفعل، وعلى التوغّل أكثر في إنجاز مشروعها العرقي الطائفي المعلوم. وإذ لا يملك العراق قراره بيده بعدما اضمحلّ دور الدولة وصغر، حتّى صارت المليشيات التي تتناسل يومياً، وتملك بيدها قرارَ السلم والحرب، تدفع بنا نحو الهاوية أكثر فأكثر، وسط الرياح الهابّة من الاتجاهات كلّها، وإذ لم يعد عندنا قادةٌ ممّن وصفهم مرّةً المفكر الفرنسي أندريه مالرو بأنهم قمم تتّجه إليها عيون الناس كلما ادْلهَمَّ الخطب وكثرت المصائب، فإنّ ولاة أمورنا الذين جمعتهم واشنطن من الأزقّة الخلفية في دول الغرب والجوار، ونصّبتهم علينا، يذهبون باستمرار إلى خيارات خاطئة وقصيرة النظر، كثيراً ما تُلحق الضرر ببلادنا وبأمننا القومي، وهذا ما تفعله اليوم حكومة محمد شيّاع السوداني، التي لا تملك القبضة الحديدية التي تجعلها تجهز بها على المليشيات التي توالي دولة "ولاية الفقيه"، وتعمد إلى اتّباع سياسة "مسك العصا من الوسط" محاولةً استرضاءَها، ملوّحةً لها باتفاقٍ غيرَ قابلٍ للتنفيذ مع الأميركيين على "انسحاب" يأتي لاحقاً، وطالبةً وقف هجماتها (ولو فترةً)، لكنّ المليشيات ترفض لأنّ "وليَّ أمرها" القابع في قُم يرفض ذلك حفاظاً على أمن بيته، ولا يجد السوداني بدّاً من طلب عون طهران نفسها للضغط على وكلائها (ولو مؤقّتاً)، لكنّ طهران تتمنّع بحُجَّةٍ كاذبةٍ هي أن أذرعها لا تأتمر بأمرها، وإنّما تتصرّف وفق ما تراه، ولها قرارها المستقلّ. يعود السوداني من جديد للبحث عن حلّ لا لينقذ رأسه فحسب، وإنّما لكي يتفادى ضربات من هذ الطرف أو ذاك تؤذي العراق، وتنعكس على عمل حكومته، فيوسّط رئيس تيّار الحكمة عمّار الحكيم، باعتباره ذا دالّة على بعض قادة المليشيات، لكنّ وساطة الحكيم تفشل.
تشرع المليشيات في التنمّر أكثر، في محاولة لإحراج السوداني وإغاظته، وربّما لإسقاطه
هنا تشرع المليشيات في التنمّر أكثر، في محاولة لإحراج السوداني وإغاظته، وربّما لإسقاطه. وتأخذ بالتهديد والوعيد، وحين يُصرّح مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي بأنّ "الحكومة وحدها هي التي تمتلك قرار الحرب والسلم، ولا نيّة لدى العراق بالدخول بحرب"، تنبري مليشيا النجباء للردّ بأنّ "المقاومة هي المعنية بإعلان حالة الحرب". أزيد من ذلك، يشتطّ أبو علي العسكري (كتائب حزب الله)، في تغريدة له، فيضع "نظام السيسي والنظام الأردني والكيان السعودي بمؤسّساته الوهابية ونظام الإمارات" أهدافاً محتملةً. ذلك كلّه بدفع من إيران، التي تريد إرباك الأوضاع حمايةً لنفسها، وضماناً لاستمرار هيمنتها على العراق، والدفع بمشروعها الإمبراطوري في المنطقة.
وفي خضمّ هذه الوقائع الملتبسة يجد العراقيون أنفسهم منقادين (من غير وعي) نحو ألغام جديدة لا قدرة لهم على تفكيكها، ووسط مخطّط خبيث مرسوم بعناية، وإن كان بعضهم يتجاهلونه عن إصرار وسبق تصميم، فيعمدون إلى فائض من وطنية أو قومية يصطنعونه لأنفسهم كي يصدّقوا ما يطوف في أذهانهم من أمانٍ يتصورونها حقائقَ.
إنّها لعبة كلمات غير متقاطعة، وقد أصبحت مكشوفةً أمام أعين الجميع، وبخاصّة رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني، الذي يمكنه أن يتصدّى لها لو امتلك الشجاعة على الفعل، وأقدم على حلّ المليشيات بما فيها مليشيا الحشد الشعبي التي انتهت صلاحيتها، وعمل على حصر السلاح بيد جيش الدولة وحده، وخطوة كهذه تفتح الطريق نحو تمكين مؤسّسات الدولة التي يحكمها الدستور، وتفعيل صلاحياتها كي تقرّر للبلاد ما تراه سلماً أو حرباً.
لو تحوّل هذا "السيناريو" المقترح حقيقةً واقعةً لتغيّر الحال والمآل معاً، لكن يبدو أنّ قَدَر العراقيين أن يظلّوا أسرى هذه اللعبة، وأن يتحمّلوا تبعاتها زمناً أطول.