في أهمية "كُنّا وما زلنا"
أدهشنا حقّا المقدسي، طارق البكري (34 عاما)، نحن الجمع الذين استمعنا إليه، في معهد الدوحة للدراسات العليا، مساء السبت الماضي، يسرد لنا، عن بعض ما صنعه منذ ثماني سنوات، ضمن المبادرة البديعة، "كُنّا وما زلنا"، والتي نهضت، تطوّعا، بمهمّةٍ خلاقة، لها شديد الأهمية في حماية الرواية الفلسطينية عن التهجير والطرد في عام نكبة قيام إسرائيل على أرض فلسطين في العام 1948. وثّقت مؤلفاتٌ ودراساتٌ ليست قليلة عن كثيرٍ مما جرى ودوّنت عنه، واجتهد في هذا باحثون وأكاديميون فلسطينيون، وغير فلسطينيين أيضا، وينشط جيلٌ جديدٌ في مواصلة هذا الدرس والتأريخ لواقعة نهب إسرائيل أراضي فلسطينيين وبيوتهم وحقولهم وممتلكاتهم (ومكتباتهم بالمناسبة) ومحفوظاتهم ومدّخراتهم. أما الذي بادر إليه طارق البكري، ضمن "كُنّا وما زلنا"، فهو التوثيق البصري للحكاية الفلسطينية، تسجيلها مصوّرة، بربط الماضي بالراهن، القديم بالحاضر، العتيق الباقي بالقائم الآني. وذلك بإقامة الصلة والتواصل بين فلسطين في زمن نهبها والفلسطينيين من أجيال الأبناء والأحفاد ممن كان أجدادُهم هناك، أو كانوا هم في طفولتهم ويفاعتهم الأولى هناك. وهناك هذه تُصبح هنا، تنتقل من موقعها في ذاكرة، في صورةٍ بعيدة، في وثيقة، في خبرٍ في صحيفة، إلى موقعها في صورةٍ جديدةٍ في الهنا الآن، يلتقطها طارق البكري مع هؤلاء الفلسطينيين ممن توزّعوا في شتاتٍ فسيح، في كل العالم.
يشرح طارق البكري ما يقول بالصور البعيدة والجديدة، المتقابلة على شاشةٍ قدّامنا، المحفوظة في حاسوبه، في مدوّناته البصرية الموثقة. لم يهدف، في بناء المبادرة التي ابتكرَها، ثم مأسَسها في فريق متطوع من 15 شابا وشابة، تم تدريبهم للعمل معه في الجهد الصعب والدأب المضني، في البحث والتفتيش والتقصّي عن البيوت الموجودة في صور عتيقةٍ تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، وإلى عشرينيّاته أيضا، واصطحاب الأحفاد الباحثين عنها إليها، ليس فقط لالتقاط الصورة الجديدة في الموقع نفسه، وأمام الأبواب والشرفات نفسها، وإنما أيضا لتوثيق المساجَلة مع الإسرائيلي الذي أعطيت أسرُته هذا المنزل من الوكالة اليهودية أو اشترته أو .. ليعرف هذا المحتلّ أنه يقيم في منزلٍ مسروق، منهوب، وليتحسّس بعينيه بأنه يكذب على نفسِه عندما يصدّق خرافة إنه، باعتباره يهوديا، فهو موعودٌ بهذا المنزل على هذه الأرض. جمع طارق في جولات بحثٍ مثابرة، وفي رفقة أصحاب المنازل والأراضي والفنادق والمساكن و...، عشرات الحكايات الحيّة الحارّة، الشائقة، والتي لا يحسُن اعتبارُها قصصا تتوسّل إنشائياتٍ وبلاغياتٍ ومجازاتٍ وبكائيات، وإنما بوصفها مادةً علميةً معرفيةً تصون الحقيقة المؤكّدة فيما يتصل بسردية الرواية الفلسطينية التي تعدّ، أولا وأخيرا، موضوع الصراع الجوهري مع الفكرة الصهيونية، مع أسطورة المحتلّ الإسرائيلي عن نفسه.
ما أخبرنا عنه طارق البكري، المهندس الجوّاب، المؤرّخ الموثق، وما أرانا إياه من صور ووثائق وشواهد وقصاصات صحفٍ قديمة، تتم التثنية عليه هنا للأهمية الاستثنائية التي تتوفّر عليها مبادرة "كُنّا وما زلنا"، والتي جاءت ابتكارا فرديا خالصا، من دون أي صلةٍ بأي مؤسسةٍ فلسطينيةٍ رسمية. استعان بعدسته، وجالَ في عموم فلسطين، في أريافها وبواديها وحواضرها، في جهاتها كلها، ليهزم المحوَ الذي أراده السارق الإسرائيلي الذي دمّر نحو 500 قرية وبلدة، ونهَبَ ما تركه أهلوها الذين طردهم بالتهجير والترهيب والقتل، وارتكب المجازر المعلومة وغير المعلومة. وبذلك، يأتي جهد طارق هذا، والعصيّ على الإيجاز في سطورٍ مرتجلةٍ كالتي تنكتب هنا، موصولا بما أنجزه مؤرّخون وكتّابٌ وأصحاب مبادراتٍ محمودةٍ ومهمة، من قبيل مشروع المعمارية سعاد العامري الذي جاءت على تفاصيل منه، في كتابها بالإنكليزية "غولدا نامت هنا" (ترجمة أيمن ح. حداد، جامعة حمد بن خليفة للنشر، الدوحة، 2014)، في استعارة سرقة غولدا مائير بيت حنّا بشارات لتقيم فيه وتتملكه. وثمّة الهزيمة التي ألحقها فلسطينيون لاجئون في مخيم عين الحلوة بأوهام المحو الذي أراده المحتلون لقريتهم الأصلية الصفصاف (شمال غرب صفد)، لمّا أعادوا خريطتها بتفاصيلها.
قال صديقنا زياد خدّاش إن "المشروع (كُنّا وما زلنا) رافعةٌ لأحلام كل اللاجئين وإرادتهم بالعودة ومستقبلهم". وفي الوُسع أن يقال كثيرٌ لا ينتهي عن هذه البادرة. وفي الأول والأخير، لقد أثبتت، للمرّة المليون على الأقل، بديهية أن هزيمة المشروع الصهيوني في فلسطين مؤكّدة، طالما أن من المستحيل هزيمة الرواية الفلسطينية التي يصونها ويحميها مبدعون من قماشة طارق البكري.