في أعراض العبودية العقلية
يسجّل التاريخ الإنساني، على مر العصور وفي مختلف الأماكن، انتهاكات للإنسان "وإجباره" على العبودية الجسدية؛ وفي الوقت نفسه، "يختار" الملايين "وبكامل" إرادتهم العبودية العقلية، وما يتبعها من اختلال بالإدراك وضبابية بالوعي وتآكل للعقل واستنزاف للأعمار والحرمان من الاستمتاع "بزهوة" العقل وعزّته وشموخه وتطوره وزيادة براحه.
تتمثل العبودية العقلية، أحيانا، في محاولات "الاختباء" بالتقاليد والعادات، خوفا من تجربة الجديد ومنح العقل فرصته "المشروعة" بالتجربة، وترديد: "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، أو "اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش"، أو "امشي سنة ولا تعدّي قناة"؛ لا نطالب بالتخلص من كل الموروثات أو التمرّد عليها ورفضها، بل النظر إليها بتعقّل، لنرى ما يفيدنا وما يضرّنا منها، "فنختار" الأولى ونطرد الثانية.
يسجن الكثيرون أنفسهم بالعبودية العقلية، بتكرار ما تنتجه عقول الآخرين؛ والمؤكّد أننا إن لم نخاطر، من وقت إلى آخر، بخطواتٍ محسوبة، فلن ننجح، ولن نحقق ذواتنا، وسنعيش كأرقام وسنمر بالحياة ولن نعيشها، وهي حياة واحدة لن تتكرّر.
من العبودية العقلية، السير مع المجموعة طلبًا للأمان، ولا نحب استخدام صفة القطيع؛ نرفض الإهانة ونحترم حق كل إنسان في اختيار ما يراه مناسبًا؛ فالجميع يدفع ثمن اختياراته، وليس من حقّ أحد فرض اختياراته على الآخرين، ولو كان في صالحهم؛ فالإجبار على الفضيلة لا يصنع إنسانًا فاضلًا، بل خاضعًا "ينتظر" الفرصة للإفلات.
حتى مع الالتزام الفكري، لا بد من "اليقظة" العقلية، فكل ما هو بشري خاضع للتساؤل وللنقاش وللتأكد منه
يصبح بعضهم عبيد عقول الآخرين بتبرير أخطاء من يحب تفكيرهم، وأحيانا خطاياهم. ويصبحون ملكيين أكثر من الملك، ويتعاملون مع من يثقون بتفكيرهم وكأنهم آلهة لا يخطئون، يدافعون عنهم باستماتة، ويحولونهم إلى آلهة، ويصبحون هم العبيد الذين يمنعون أنفسهم من التفكير في صحّة ما يسمعون.
يصنع آخرون العبودية العقلية عند مواجهتهم أي مشكلة، فيجهضون محاولات العقل لحلها، ويصنعون ضيق عقولهم ويمنعونها من التحرّك، ويضعونها بجبيرة تمنع الحركة، ويسارعون بالاستعانة بمن "يرونهم" قادرين على إيجاد الحلول للمشكلات.
تبلغ العبودية العقلية ببعضهم أنه ينتفض غضبًا ويكيل الشتائم، ويصب اللعنات على رأس من يخالف من يختار "تبعيته" العقلية لهم، حتى لو قالوا إن الشمس تشرق ليلًا، فسيقسم أنه رأى الشمس تشرق ليلاً وأن الأصل أنها تشرق ليلًا وإشراقها في النهار هو الاستثناء.
نحترم الالتزام الفكري بمنهج يتم اختياره "بعد" تفكير وتروّ، واليقين بحسن الاختيار ونرفض الصبيانية الفكرية التي تخالف فقط لإثبات الوجود. وحتى مع الالتزام الفكري، لا بد من "اليقظة" العقلية، فكل ما هو بشري خاضع للتساؤل وللنقاش وللتأكد منه، ومن ينسى ذلك ينزلق، من دون وعي، لبعض من العبودية العقلية التي تحرم صاحبها من الاستمتاع بإنسانيته، والفرح بتفرّده والفوز "بأغنيته" الخاصة في الحياة، وسيتحوّل من إنسان لديه كل الحقوق في اختياراته بالحياة إلى واحد من مجموعة تردّد أغاني الآخرين، وتجهض داخله حقه المشروع في الاستماع لصوته "الخاص"، والتغنّي به واحترامه أيضا.
زادت العبودية العقلية مع وسائل التواصل الاجتماعي والصراع المحموم على السيطرة على عقول الناس وباستخدام التخويف والترهيب
احترام الصوت الخاص للإنسان من أهم مقوّمات تقدير الذات، ولا غنى عنه للفوز بحياةٍ ناجحة، والتمتع بصحة نفسية واكتساب "اللياقة" العقلية واحتضانها ما بقي صاحبها على قيد الحياة والعكس صحيح. والعقل إن لم يُستخدَم يضمُر، وإن ضمُر سبّبَ لصاحبه التعاسة والهوان على نفسه، وأصبح فريسة "سهلة" لكل من يتنبه إلى ذلك، فيسهل عليه السيطرة عليه "واقتياده" ليفعل ما يريد، ولو كان ضد مصالحه ويناهض رغباته؛ وسيفعلها برضوخ، وكأنها السبيل "لإنقاذه" من كارثة.
زادت العبودية العقلية مع وسائل التواصل الاجتماعي والصراع المحموم على السيطرة على عقول الناس وباستخدام التخويف والترهيب؛ ينقذ الاحتفاظ "بفردية" العقل صاحبه من مخاطر التفكير الجمعي؛ فلو سار إنسان بمفرده وسمع من يصرخ جانبه، فسيلتفت ليرى ما يحدُث. أما إذا حدث ذلك وهو يسير مع مجموعة من البشر، فسيصرخ بعضهم، وسيسود الفزع "وسيتعطل" التفكير.
لا تقتصر العبودية العقلية على بعض العرب، كما يحلو لمن يردّد هذا الاتهام؛ ففي الغرب نجد بعض أتباع الحضارة الأوروبية يختارون العبودية العقلية للنموذج الأميركي، بدءا من الأكل والملابس وانتهاءً بالقيم الأميركية، رغم تفوق الحضارة الأوروبية بحكم سنوات طويلة من الوجود والعطاء الحضاري، ولكنها سطوة "الإلحاح" الأميركي عبر الإعلام والأفلام، وغيرها، ويقول المثل الشعبي: "الزن على الودان أمرّ من السحر"، ونضيف بكل ثقة وبواقعية: لمن "يقبل" مواصلة الاستماع ولا يسارع بطرده احتراما لعقله "وصيانة" له.
من يتنازل عن حريته العقلية كمن يلقي بيديه بثروته "وكنزه" الخاص، ويعيش باختياره عالة على الآخرين
أسوأ ما في العبودية العقلية أنها تحوّل من يختارها من إنسان له كامل التحكّم في عقله "ويفلتر" كل ما يراه أو يستمع إليه أو يقرأه إلى شيء "يضع" به من وضعهم أسيادًا على عقله ما يريدون، ولو كانت نفاياتهم فيحشون عقله بها، ولا يبقى فيه مكان، ليتنفس به عقله الحرية في اختيار ما يناسبه مما لديهم، ويلفظ بقوة وبحزم وباحترام لعمره، ما لا يوائم أهدافه واختياراته الخاصة.
يرى بعضهم نفسه لا يتمتع بمقدار جيد من الذكاء، فيسعى إلى تحسين عقله بالسير وراء عقول الآخرين، والصواب أن يعتز بنفسه بلا مبالغة، ويتعلم من خبرات الآخرين، بعد إجادة فلترتها، وتنويع المصادر مهم جدا، حتى لا ينزلق إلى العبودية العقلية، ولو بعد حين. وتتمثل هذه العبودية أحيانا بالرغبة في تقليد المحتل، وإن رحل بجنوده وتوهم أنه سيصبح أفضل من مواطنيه. ومن يتنازل عن حريته العقلية كمن يلقي بيديه بثروته "وكنزه" الخاص، ويعيش باختياره عالة على الآخرين، ينتظر "الفتات" الذي يرمونه إليه بلا احترام، ليوهم نفسه بأنه على قيد الحياة. والحقيقة أنه لا توجد حياة حقيقية لمن يعيش عبدا لعقول غيره، يتحكم العقل بحياتنا؛ فكيف نسمح لعقول الآخرين بالسيطرة على حياتنا؟
العبودية العقلية أسوأ أنواع العبودية؛ فالعبودية الجسدية "تنبّه" صاحبها إلى ما يتكبده من خسائر نفسية وجسدية ومالية، وتدعوه إلى كراهيتها، والسعي، بشتى الطرق، إلى الخلاص منها، أما العبودية العقلية، فتتسلل "بخبث"، ويختارها صاحبها ويتغنى بها ويفتخر بعضهم بأنهم من أشد أتباع فلان، وكأنها ميزة يتفاخرون بها، ولا أحد يفكّر، ولو لثانية، في التخلص من مزاياه، بل يسعى إلى توطينها.