في "أسفار يعقوب الأربعة"

25 سبتمبر 2023
+ الخط -

أهدى الروائي المغربي حسن رياض رواية "أسفار يعقوب الأربعة" (المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 2017)  "إلى الشعب الفلسطيني العظيم"، كما كتب في الصفحة الأولى، حيث يبدأ الحدث في الرواية في معبد في الحي اليهودي في فاس، عندما كان الحاخام موسى الإشبيلي جالسا يصلي، وقطع صلاته رجل غريب يرتدي أسمالا، وبعد أن خاطبه وتأكّد أنه  الحاخام موسى الإشبيلي، أودع عنده كتابا ضخما، كان يحمله على ظهر دابّة قوامه ألف صفحة من جلد الماعز. لم يكن ذلك السفر سوى كتاب التلمود، الذي ظل ممنوعا من التداول فترة القرون الوسطى وما بعدها، ويعاقب كل من يحمله أو يتداوله بالموت، نظرا إلى ما تضمّنه من تعاليم متطرفة تقتضي باستحلال قتل الأميين (غير اليهود). ولما تضمنه كذلك من عبارات قدحية في حق السيّد المسيح، إلى جانب فقرات شوفينية من قبيل الفقرات التالية التي أطلقها الكاهن على هيئة استفساراتٍ، بعد أن صُدم بما جاء في التلمود من تعاليم صدمته، وجعلته في حيرة وتساؤلات وشرود. رغم ذلك، ما لبث وآمن بها بل لقنها لطلبته، حيث جاءت هذه التعاليم على لسان النبي موسى، ونسبت إليه زورا: "يا موسى، ما معنى أن نقتل أفضل الناس من غير اليهود؟ يا موسى، هل صحيح أنه علينا أن نركب ظهور الشعوب الأخرى، ونمتصّ دماءهم ونحرق أخضرهم ونلوث طاهرهم ونهدم عامرهم؟ يا موسى، هل صحيحٌ أن العالم خلق من أجل إسرائيل؟ يا موسى، هل ظهور المهدي المخلص مرهون بخراب الأرض وتدمير كل عامر؟" ويرى المؤلف، في لقاء  تلفزيوني في قناة مغربية، أن هذه التعاليم ما زالت تلقن في إسرائيل بعدة طرق مباشرة وغير مباشرة، كما أنها تتسلّل إلى المناهج التعليمية الإسرائيلية.
يتضمّن التلمود كذلك معلومة مفادها أن الربيَ اليعازر (كلمة الربي تستخدم كثيرا في الرواية، ويبدو أنّها رتبة يهودية مقامية دينية) بعد أن واقع أكبر عدد من النساء، كافأه الربّ بالخلود في النعيم. حيث ناداه الرب في منتصف رحلة المواقعات "المقدّسة" تلك، وكافأه بالخلود في النعيم الأزلي، الأمر الذي دعا الربيين يعقوب وداود، وهما من تلامذة الكاهن موسى الإشبيلي، إلى أن يسلكا مسلك أليعازر في أمنيةٍ لأن يمنحهما الربّ، في منتصف الطريق، الخلود في النعيم، كما حدث للربي أليعازر. وهي حبكة ابتكرها الكاتب منطلقاً من مصادره التاريخية، لكنه أسقط مكاناً جديداً عليها، وهي الأحياء اليهودية في المغرب. وانطلاقاً من هذه الخريطة، تطلعنا الرواية على الأحياء اليهودية التي شرعت تزورها شخصيتا الرواية يعقوب وداود، حيث تبدأ رحلة ما سمّي في الرواية الجماع المقدّس. وحين لم تثبت مقولة إن الرب سيختارهما، بعد أن أمضيا وقتاً طويلاً في رحلتهما، يتخلّى داود عن إكمال الرحلة، ليظلّ يعقوب صامداً في رحلاته إلى الأحياء اليهودية، وممارسة تفاصيل الأسطورة. 
الرواية هنا، وفي أثناء هذا التجوال الملتبس، تُطلعنا على تفاصيل من المناخ اليهودي والعادات والطباع والملابس، كما أنها تعرّفنا على مدن قطن فيها اليهود. تنحو الرواية بذلك منحىً ميثولوجيا مرصّعا ببحث أنثروبولوجي، يعتمد التقصّي والدقّة في إبراز المعلومة، إلى جانب الجنوح التوثيقي التاريخي، مثل الصفحات المتعلقة بتفاصيل تاريخية عن آخر أيام السلطان مولاي إسماعيل. وفي الرواية صوت مخالف لأهمية التلمود، هو صوت زوجة موسى الإشبيلي نعمة، التي ترفض تلك التعاليم وتعتبرها خرافة دموية، لكن زوجها يعاندها فيحدُث في علاقتهما تصدّع وفتور، حيث يهجرها متجهاً ناحية ذهوله ودعوته وطقوسه.
تعتمد الرواية أسلوباً إشارياً يبتعد قدر الإمكان عن الإسهاب، ويميل إلى الإشاري، معتمداً على إضافات القارئ في البحث عن أبعاد الرواية. لذلك جاءت رواية مكثفة في 141 صفحة فقط، وهو ما لم نعهده في الروايات التاريخية، إلا عند الكتّاب المتمكنين، على سبيل المثال الألباني إسماعيل كاداريه والتركي أورهان باموق في ما تركاه من روايات تاريخية. كما أنها رواية لا تميل الى تسجيل الوقائع بقدر ميلها إلى فتح آفاق جديدة للسرد واستخدام المعلومة التاريخية استخداماً سردياً لمّاحاً.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي