فسيفساء المجتمع الإسرائيلي.. التشرذم أم التضامن الاجتماعي؟

23 ديسمبر 2024

يهود فلاشا أمام سفارة إسرائيل بأديس أبابا فاتتهم طائرتهم إلى إسرائيل (25/5/1991 فرانس برس)

+ الخط -

"أدرك شيوخ الطائفة اليهودية المزراحية أن المغرب كان وطنهم، بل عمل بعضهم في توزيع ملصقات ودعوات تطالب ملك المغرب محمد الخامس العمل على إعادتهم مرّة أخرى إلى المغرب".. هكذا يقول أحد النشطاء اليهود المغاربة من الطائفة المزراحية، شهد احتجاجات منطقة وادي الصليب بحيفا في يوليو/تمّوز 1959. وكانت تلك الاحتجاجات العنيفة قد طالبت بالمساواة مع اليهود الأشكناز، وتحسين الظروف الاجتماعية والسكنية التي كانت مُزريةً إلى حدّ كبير في ذلك الوقت، إذ أدرك اليهود الشرقيين (المزراحيين) بشكل عام، واليهود العرب بشكل خاص، أن السردية التي بُنيت عليها تلك الدولة لا تعبّر عن تاريخهم، بل إن الحركة الصهيونية قد تسبّبت في المشاكل والتحدّيات التي واجهوها في بلدانهم العربية، حيث إن خطاب الضحية ومعاداة السامية لا ينتمي إلى تراثهم وخصوصيتهم، وكان  المهاجر اليهودي المغربي، بن حاروش، الذي قاد احتجاجات المغاربة في وادي الصليب بحيفا، قد قال غاضباً: "ما أقلقنا أكثر وأثبت لنا خطورة الوضع وفتح أعيننا على نوع البيئة التي نعيش فيها، هو أن أولئك الذين اعتبرناهم جيراناً لنا، يشاركوننا في أفراحنا وأحزاننا قد ارتفعوا فوقنا أسياداً علينا". 
اكتشف اليهود الشرقيين (المزراحيين) أن الصهيونية (في نسختها الأوربية الأشكنازية) قد دفعتهم إلى تبّني وعي أوربي للهولوكوست الغربي، ممّا جعلهم ينفصلون عن جذورهم الثقافية والاجتماعية لصالح فكرة أنهم يعيشون في بلاد الشتات، ولا بدّ لهم من العودة إلى أرض الميعاد، بهجرتهم إلى إسرائيل. وقد أفضت تلك الاحتجاجات التي قادها اليهود الشرقيين إلى ظهور نوع جديد من الدراسات والتحليلات النقدية في الثمانينيّات، انتقلت من التركيز في اضطهاد اليهود إلى قمع الأقليات المِزراحية من المؤسّسة الصهيونية الأوروبية الأشكنازية، الذين أعلنوا رفضهم أن يكونوا عربةً فارغةً (في نظر النخبة الأوروبية الأشكنازية الحاكمة) ينبغي تعبئتها بسرديات وقواعد محدّدة.
وكانت كتابات المؤرخين اليهوديين، سالون بارون ومارك كوهين، تعتبر تحوّلاً في رفض الرؤية البكائية الموحّدة لليهود، إذ وجّه الباحثان (وغيرهما) النقد إلى السرد الصهيوني عن حتمية العودة اليهودية إلى فلسطين فعلاً للخلاص من آلام المنفى، رافضين التفسير الصهيوني السائد للهجرة اليهودية ضمن سياق "من الهولوكوست إلى الخلاص والبعث"، كما جادل كلّ من بارون وكوهين بأن هذا السرد يعزّز وعياً زائفاً لدى المهاجرين اليهود من البلدان العربية حول علاقاتهم السابقة السلمية مع المسلمين العرب، فلم يتعرّضوا لتجربة الهولوكوست أو إقصاء اليهود على غرار النموذج الغربي.
ولم تلبث احتجاجات اليهود الشرقيين أن تهدأ حتى عادت من جديد. ففي يونيو/حزيران 1971، نشطت مجموعة منهم تسمّي نفسها "الفهود السود"، أعلنت صراحة أنها "تأسّست على خلفية المرارة المتراكمة منذ وصول المستوطنين الأوروبيين الأوائل إلى البلاد"، بل إن بعض المنتمين إلى تلك الحركة كانوا يرون النضال الفلسطيني نضالاً مشروعاً، ويعتبرون أنفسهم كيهود شرقيين (المزراحيم) جسراً محتملاً للعالم العربي، إلّا أن الحروب التي دخلتها إسرائيل مع الدول العربية قد نجحت في إضعاف تلك المشاعر تجاه القضية الفلسطينية، وأخفت التناقضات الاجتماعية، ولا يزال العديد من علماء الاجتماع يشكّكون (حتى اليوم) في دعاوى التكامل بين الجماعتَين الرئيستَين في الكيان الصهيوني، الغربيين (الأشكناز) والشرقيين (المزراحيم والسفارديم)، فيقرّرون أن ثمّة تنافر بينهما في المجال العام.
ومن الناحيتين التاريخية والاجتماعية، فإن المجتمع الإسرائيلي يقوم على أساس أنه مجتمع مهاجرين، مختلفي القوميات والطبقات والانتماءات العرقية والاجتماعية والثقافية، ولكنّه يحاول أن يلتئم حول مصدر أيديولوجي محدّد يتجسّد في الهُويَّة الصهيونية، التي عملت في إحياء وفرض مصطلحات من قبيل الوطن القومي، وأرض الميعاد، والقومية الدينية، وبما يشكّل سرديةً ملزمة لاستمرار الكيان الصهيوني واجتماع يهود العالم حولها.

يُبرز دور الاستعمار، ودور العقيدة البروتستانتية الأنجليكانية، في صياغة الوعي الصهيوني، ودفع اليهود إلى تبنّي الحركة الصهيونية

المصدر الخارجي لنشأة المجتمع الإسرائيلي وتطوّره
"سيكون لهذا المشروع تأثير إيجابي في الحكومة البريطانية، وسيُمكننا من جذب الدعم الفرنسي، وربما الإيطالي، ممّا يشكّل حركة دينيةً قويةً ضدّ الروس الذين يحاولون السيطرة على المنطقة عبر الحجاج. كما سيحظى المشروع بدعم ديني كبير في بريطانيا، وحتى من الراديكاليين الذين سيتجاوزون خلافاتهم السياسية لصالح عقائدهم الدينية. وأتوقّع أيضاً مساهمةً جيّدةً في التمويل من أميركا".. هكذا كتب الدبلوماسي البريطاني لورنس أوليفانت في خطابه إلى وزير الخارجية البريطاني، وكان أوليفانت مسيحياً بروتستانتياً يتبع الكنيسة الإنجيلية، إلّا أنه لم يخفي ولائه وإيمانه التام بالصهيونية المسيحية، وكان دوره هامّاً في موجة الهجرة الأولى إلى فلسطين؛ فكان مؤمناً بأن هجرة واستيطان اليهود فلسطين خطّة دينية وضرورة لازمة من أجل الخلاص وعودة المسيح، وكان يرى أن من واجب المسيحي البروتستانتي المخلّص أن يكون داعماً لحقّ اليهود في وطن لهم بفلسطين، ومن ثمّ سعى إلى أن يكون له دور في شحذ هِمّة الدول الغربية واستغلال مخاوفها (خاصّة بريطانيا) من طموحات القيصر ألكسندر الثاني، وحثّها على ربط مصالحها معاً في الشرق الأوسط بإقامة مستعمرات يهودية في فلسطين، أو ما أسماه " خطّة جلعاد"، وبما يضمن تطويق المشروع الروسي، الذي يطمح إلى التوسّع، وبما يهدّد النفوذ والمصالح البريطانية في الشرق الأوسط.
ويُبرز ذلك الدور، الذي لعبه كلّ من الاستعمار والعقيدة البروتستانتية الأنجليكانية، في صياغة الوعي الصهيوني ودفع اليهود إلى تبنّي الحركة الصهيونية والقومية الدينية، وليس صدفةً أن يكون العام 1882 بداية الهجرات اليهودية (ذات الدوافع الصهيونية) إلى فلسطين؛ ففي هذا العام الذي احتلت فيه بريطانيا مصر، وفرضت نفوذها على كلّ مقدراتها، كان لافتاً ترحيب ودعم الساسة ورجال الدين والمال والثقافة الإنكليز للهجرة المنظمة لليهود إلى فلسطين، وكان ذلك ظاهراً عندما بدأت الموجة الأولى أو "عالية الأولى" (كما يسمّيها المؤرّخون الصهاينة) عام 1882، بدعم من جمعية أحبّاء صهيون التي نشأت في روسيا عام 1870، وامتدّت فروعها في مختلف البلدان الأوروبية.
 وتقدّم أوليفانت بمشروعه إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بشكل يسبق مجهودات تيودور هرتزل، إذ عرض فكرته الاستيطانية على السلطان، وعمل أوليفانت للحصول على تزكية لورد بيكونسفيلد (رئيس الوزراء البريطاني ذو الانتماءات الإنجليكانية واليهودية المتداخلة)، والذي كان قد اشترى أسهم الخديوي إسماعيل في قناة السويس عام 1875 المقدّرة بـ 44% من أسهم القناة، وبما سمح لحضور بريطاني قوي في المسألة المصرية، ولكنّ السلطان عبد الحميد رفض بشدّة تلبية طلب أوليفانت، خاصّة عندما علم نواياه الدينية من استيطان اليهود في فلسطين، الأمر الذي دفعه إلى تحريض بريطانيا وساستها على إقامة مستعمرات يهودية تحت حماية بريطانية.
وكان إدموند دي روتشيلد، الثري اليهودي البريطاني، أبرز من استجابوا لدعوة أوليفانت، وعمل على دعم الهجرة اليهودية الأولى، بل كان قائماً على رعاية سبع مستعمرات يهودية؛ عُرفت بمجموعة روتشيلد، كانت تضمّ نصف اليهود في فلسطين آنذاك، يغلب عليهم الطابع الزراعي، من يهود روسيا وأوربا الشرقية واليمن، غير أن رُبع هؤلاء المهاجرين قد عادوا إلى بلادهم مرّة أخرى، ريثما تتحسّن ظروف الهجرة، خاصةً مع بسط السلطات والقوات البريطانية نفوذها على فلسطين، وظهور مجموعة من النشطاء الصهاينة أمثال ديفيد بن غوريون، الذي سافر إلى نيويورك لحشد وتعبئة اليهود في لواء حربي يقاتل إلى جانب اللورد اللنبي في معارك الحرب العالمية الأولى في فلسطين.

إن مجتمعاً ينشأ معتمداً على قوى خارجية يجعل تضامنه الداخلي قائماً على عناصر متطرّفة تخشى أن ينفرط عقد الكيان المصطنع

ويكشف الجدول التالي عن تطور أعداد المهاجرين اليهود مقارنةً بالسكّان الفلسطينيين خلال سنوات مختارة:

النسبة المئوية للفلسطينيين

النسبة المئوية لليهود

السكان الفلسطينيون

السكان

 اليهود

المهاجرين اليهود إلى فلسطين

 

السنة

%94

%6

400000

25000

25000

1882

%88

%12

700.000

95.000

35000

1919

%82

%18

800,000

175000

80000

1924

%72

%28

1000000

400000

250000 

1933

%76

%33

1300000

650000

250000 

1945

%56

%44

1400000

1100000

700000

1948

%54

%44

1600000

1400000

300000 

1951

ومن خلال الجدول السابق، كان واضحاً أن الزيادة الكبيرة في حركة الهجرة اليهودية ارتبطت بالحربَين العالميتَين، خاصّة الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، التي ارتفعت فيها معدّلات الهجرة الصهيونية إلى أرقام قياسية غير مسبوقة، علاوة على الدور الاستعماري في دعم الحركة الصهيونية تحت مسمّى وعد بلفور والانتداب البريطاني، وجماعات الإنجيليين البروتستانت، الذين موّلوا جمعيات مثل جمعية الإنجيل اليهودية، لإجراء مسوح جغرافية وإحصائية حول فلسطين منذ العام 1865، وبشكل مبكّر وسابق لدعاة الصهيونية أنفسهم، إذ كانوا يعتقدون أن عودة اليهود إلى فلسطين واستقرارهم هناك جزءاًَ من نبوءات الكتاب المقدّس حول نهاية العالم، كما أن بعضهم يرى أن تأسيس دولة إسرائيل كان خطوةً نحو تحقيق الظهور الثاني للمسيح في الأرض ونهاية الشرّ من العالم .
إن مجتمعاً ينشأ معتمداً على قوىً خارجية سياسية وعقائدية من شأنه أن يحيا معتمداً على مصادر قوته الخارجية، التي يستمدّ منها تماسكه ووحدته؛ علاوة على ارتباط ذلك المجتمع ببنىً اجتماعيةٍ وأيديولوجيةٍ خارجيةٍ، الأمر الذي يجعل التضامن الداخلي قائماً على حضور قوى عناصر متطرّفة تخشى أن ينفرط عقد الكيان المصطنع، ومن ثمّ تحتاج دائماً إلى خلق حالة استثنائية حاضرة دائماً، تقوم على جمع ولمّ شمل وحدة التكوين الصهيوني في مقابل الخطر الوجودي، حيث الآخر (الفلسطيني) باعتباره العدوّ الذي يتربّص بالمجتمع الصهيوني، ومن ثمّ يجب قتاله وإقصائه والتنكيل به في كلّ يوم وفي كلّ حين، واعتبار أن ذلك عملاً ضرورياً لمنع تشتّت اليهود أو انفراط عقد دولتهم. ومن ثمّ تعمل القوى الصهيونية لخلق خطابٍ للكراهية والعنف إزاء كلّ ما هو فلسطيني، حتى أن بن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل)، بالرغم من انتمائه لحركة اشتراكية هي "عمّال صهيون"، وادعائه أنه علماني، إلّا أنه كان يؤيّد ترحيل الفلسطينيين خارج فلسطين تماماً، حتى أنه فرض حكماً عسكرياً على عرب 1948 الذين لم يهاجروا عقب النكبة.
وبشكل عام، يقود خطاب الكراهية، والعدوان تجاه الفلسطينيين، رجالُ دين وسياسيون وإعلاميون وصنّاع رأي، وتاريخياً فإن بنية هذا الخطاب تعود إلى مواقف وتصريحات مؤسّسي الدولة، وفي مقدّمهم ديفيد بن غوريون، ففي العام 1937 كتب بن غوريون : "يجب أن نتمسّك بالترحيل الإجباري للعرب من الدولة اليهودية المستقبلية... بنفس الطريقة التي تمسّكنا بها بوعد بلفور، بل وبالطريقة نفسها التي تمسّكنا بها بالصهيونية نفسها".
أسّس بن غوريون منهجيةَ التخلّص من الفلسطينيين، فهو يصرّح في عام 1948 بأنه "لا يمكن أن تكون هناك دولة يهودية مستقرّة وقوية طالما أن الأغلبية اليهودية لا تتجاوز 60%،... حيث إن مفاهيم من قبيل القول إن هناك حقّ في الأرض هي مفاهيم سلمية تفقد معناها، الحرب فقط ستمنحنا الأرض". ولا تزال تصريحات المسئولين الإسرائيليين تتعرّض للوجود الفلسطيني وتعتبره عقبةً في طريق الدولة اليهودية، وهو ما رصدته إحدى الناشطات الإسرائيليات في مجال حقوق الإنسان، حتى قبل السابع من أكتوبر (2023) بأعوام، من تحريض حاخامات وقادة سياسيين على الفصل الكامل بين اليهود والعرب (غالباً ما يستخدم الإسرائيليون مصطلح العرب عند الحديث عن الشعب الفلسطيني باعتباره نزعاً وتجريداً لهم من هُويَّتهم الوطنية)، وعدم التعامل مع العرب أو تشغيلهم أو تأجير أماكن للإقامة لهم، وكانت تلك الأعمال العنصرية وغيرها من الدعوات لإيذاء الفلسطينيين خارج أيّ محاسبة قانونية، كما تقول الناشطة أورلي إيريز.

المجتمع ذو البنية والقوى المهاجرة يحمل صوراً شتى من التناقضات والمشكلات المستمرّة، فهو مجتمع غير متجانس، متعدد الولاءات

تعميق حالة العداء والخطر الوجودي هو إحدى أدوات حشد تماسك المجتمع الإسرائيلي خلف غايات وروابط مشتركة للهُويَّة الجمعية، ومن ثمّ تصوير أن أزمة إسرائيل في السكّان الفلسطينيين الأعداء، وليس في حجم التناقضات المتفاقمة في بنية المجتمع الصهيوني، وتأتي حالة اليهودي المغربي تشارلي بيتون نموذجاً على نجاح النخبة الاشكنازية الحاكمة في حشد وتعبئة المجتمع الإسرائيلي تجاه الآخر الفلسطيني، واعتباره عدواً ضرورياً من أجل استمرار وحدة وتكامل ذلك المجتمع. كان بيتون من النشطاء البارزين المعروف عنهم تأييد حقوق الشعب الفلسطيني، إلّا أنه تخلّى عن دعمه للفلسطينيين عقب الانتفاضة الثانية في العام 2000، وبما يتفق مع الاتجاه العام في المجتمع الإسرائيلي في استهجان ورفض الانتفاضة، وكان بيتون من قادة حركة الفهود السود التي تشكّلت بالأساس من يهود مغاربة لمقاومة الأوضاع الاجتماعية السيئة التي يحيون فيها، وفي العام 1975 التقى بيتون في أوروبا بالعديد من ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد عودته من ذلك اللقاء بعدّة أشهر نظّم ورفاقه مؤتمراً شعبياً للفهود السود أعلنوا فيه أن "السلام العادل لا يمكن تحقيقه إلّا على أساس الاعتراف المتبادل بين إسرائيل والفلسطينيين، وعلى أساس مبدأ أن هذه الأرض هي وطن مشترك لشعبَين، ولكلّ منهما الحقّ في سيادة ودولة مستقلة"، ولكن تمكّنت النخبة الأشكنازية من تفكيك دوافع تلك الحركة عبر مجهودات مناحيم بيغن، من تيار أقصى اليمين، والنجاح في تعبئة المجتمع الإسرائيلي ضدّ الوجود والحقوق الفلسطينية.
وفي الوقت الراهن، فإن استطلاعات الرأي في المجتمع الإسرائيلي تثبت نجاح السياسة العدوانية في حشد المجتمع الإسرائيلي متجاهلاً تناقضاته وتبايناته الكبيرة. ففي الاستطلاع الذي أجراه مركز بيو للأبحاث، يونيو/حزيران 2024، داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي ذهب إلى أن  93% من الإسرائيليين اليهود يعتقدون أن العملية العسكرية  في غزّة وجنوب لبنان لها نتائج وأثار إيجابية على مآلات الأمور ومستقبلها في المجتمع الإسرائيلي، بل إن 40% من المجتمع الإسرائيلي يؤيّدون حكماً إسرائيلياً عسكرياً في غزّة، ما يظهر أن حالة خلق عدو ( طوال الوقت) هي خاصية متجذّرة في بنية المجتمع الإسرائيلي.
ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن حالة العداء والكراهية تجاه الفلسطينيين ليست وليدة ما بعد السابع من أكتوبر، فبالرجوع إلى استطلاعات رأي أقدم نسبياً سنجد أن استطلاعاً أجراه مركز بيو أيضاً في العام 2016، توصّل إلى أن ما يقارب نصف الإسرائيليين اليهود (49 %) يؤيّدون طرد الفلسطينيين وترحيلهم خارج دولتهم، في ذات الوقت يؤيّد 79% من الإسرائيليين أن يحظى اليهود الإسرائيلي بمعاملة أفضل مقارنة بالعرب (حتى من يحملون منهم الجنسية الإسرائيلية)؛ وهو الأمر الذي يبرز درجة التمركز حول الذات؛ وبما ينفي أفكار المجتمع التعدّدي وإمكانيات التعايش، إذ يعيد الإسرائيليون إحياء نموذج الغيتو، والمجتمع المنغلق الرافض للآخر، الأمر الذي سيترتب عليه، من الناحية الاجتماعية، ممارسات عدوانية تجاه الآخرين.
ويمكن القول إن الخريطة العرقية الفسيفساء لمجتمع اليهود الإسرائيليين تشير إلى توزّعه بين أربع مجموعات رئيسة: اليهود الأشكناز: يشير مصطلح الاشكناز إلى اليهود من ذوي الأصول الأوروبية الوسطى والشرقية، بما في ذلك ألمانيا وبولندا وروسيا وأوكرانيا، وكانت اللغة الأساسية لهم هي لغة اليديش، وهي مزيج من الألمانية والعبرية وبعض اللغات السلافية.
ويشكلون ما يقارب 32 % من السكّان الإسرائيليين، هم صفوة المهاجرين والمؤسّسين للدولة، ويغلب عليهم الانتماء إلى وسط أوروبا وشرقها (على وجه الخصوص)، ويسيطرون على المناصب الرئيسة مثل رئاسة الوزراء، والمحكمة العليا، وغالبية العلماء البارزين، وكان المهاجرون الأوائل وقادتهم من ذوي التوجّهات الاشتراكية، أو ما يمكن أن يُسمى رأسمالية الدولة التي تفرض صيغة من العمل الجماعي والتعاوني، والحياة في الكيبوتسات التعاونية، والذين وجدوا أنفسهم بعد عام 1948 أمام تنوّعٍ وزحفٍ بشري من مجتمعات مختلفة لا تعرف الاشتراكية، ولا تؤمن بالتقاليد والثقافة الأوروبية.  
اليهود السفارديم: يشير المصطلح إلى اليهود ذوي الأصول الإسبانية والبرتغالية، الذين هاجروا بعد طردهم من شبه الجزيرة الإيبيرية في أواخر القرن الخامس عشر، وبما يشمل أيضاً اليهود في شمال أفريقيا وتركيا والبلقان، ويتحدّث السفارديم لغة اللادينو، وهي مزيج من الإسبانية والعبرية، مع تأثيرات من لغات أخرى مثل العربية والتركية. ويقدّر حجمهم بـ25% من المجتمع الإسرائيلي، وغالباً ما يُقدّرون ضمن اليهود المزراحيين، بالرغم من الفوارق الثقافية والاجتماعية التي حملها معهم السفارديم، فلهم رؤية مختلفة في فهم نصوص التوراة وأداء الطقوس الدينية، علاوة على إرثهم المشترك المميّز.
اليهود المزراحيين: يشير المصطلح إلى اليهود الشرقيين الذين ينحدرون من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك العراق واليمن وسورية وإيران ومصر. تأثروا بالثقافات العربية والفارسية، ويتحدّثون لغات محلّية جلبوها معهم من بلدانهم الأصلية إلى جانب العبرية، ويبلغ وزنهم الديموغرافي ما يزيد عن 35% من السكّان الإسرائيليين اليهود، وقد واجهوا تحدّيات كثيرة عقب هجراتهم الأولى، وصوراً للتمييز والاستبعاد من الصفوة الاشكنازية، ولم ينسَ اليهود المزراحيين كيف عوملوا عندموا وزّعوا على أماكن نائية، ومهن وحرف غير مربحة، وكانت احتجاجاتهم في الخمسينيّات بارزةً ومؤثّرةً، وقد توّجها ظهور حركة الفهود السود 1971.
ورغم الإصلاحات السياسية التي قام بها مناحيم بيغن لمصلحة المزراحيين والسفارديم، نظراً لحاجته دعم كتلتهم الانتخابية، والتي كانت نواة الكتلة الأكثر تديّناً وتطرّفاً في مقابل الكتلة الاشكنازية ذات الجذور العلمانية، فإن مظاهر احتجاج المزراحيين لا تكاد تتوقّف، وعلى سبيل المثال في يناير من العام 2023 قضت المحكمة الإسرائيلية العُليا بعزل رئيس حزب شاس اليميني (المتطرّف)، أرييه درعي، من منصبه وزيراً للداخلية والصحّة، بسبب تهرّبه الضريبي، وينتمي درعي إلى اليهود الشرقيين (المزراحيين) فهو يهودي من أصول مغربية، وردّاً على محاكمته تظاهر مئات من أنصار ذلك الحزب المتطرّف احتجاجاً على ذلك القرار، ورفعوا لافتات ضدّ قضاة المحكمة، وكان من بين الشعارات والهتافات التي صاحوا بها أن "قضاة المحكمة العليا (جميعهم من الأشكناز) يمارسون التمييز مرّة أخرى ضدّ اليهود المزراحيين".
اليهود الأثيوبيين أو الفلاشا: تعود أصول الفلاشا إلى إثيوبيا، حيث عاشوا عدّة قرون في المناطق الشمالية من البلاد، خصوصاً في إقليمي تيغراي وأمهرة. ويعني فلاشا "المنفيين" أو "الغرباء" باللغة الأمهرية، وهو مصطلح يحمل دلالة سلبية، لذلك يُفضّلون أن يطلق عليهم "بيتا إسرائيل". ويمارس يهود الفلاشا نسخةً من اليهودية تختلف عن اليهودية الحاخامية، إذ لم يكن لديهم التلمود، واعتمدوا على التوراة المكتوبة فقط، ويبلغ مجموعهم زهاء 145 ألف نسمة، وهم أقلّية يهودية لا تزيد عن 2% من السكّان اليهود، ويعيش أكثر من نصفهم تحت خطّ الفقر، ويشكوا أغلبهم من انخفاض دخله مقارنةً بغيره من اليهود، ويواجهون مشكلات صارخة حتى في إثبات انتمائهم الديني، حتى أن العديد من الحاخامات كان يشكّك في يهودية الفلاشا باعتبار أن أسلافهم قد أُجبروا على اعتناق المسيحية في مرحلة ما من حياتهم في الحبشة. ويضطر شباب الفلاشا إلى الاحتجاج بين الحين والآخر، خاصّة عقب انكشاف فضائح للتمييز ضدّهم، وكان أشهرها حادثة التسعينيّات، أو ما عُرف وقتها بـ"فضيحة التبرع بالدم"، إذ كانت المستشفيات الإسرائيلية ترفض سرّاً تبرّعات الدم من اليهود الإثيوبيين بدعوى الخوف من احتمال إصابتهم بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز).
وكان  تقرير وزارة العدل الإسرائيلية قد اعترف في العام 2016 أن ثمّة تمييز مؤسّسي يواجه اليهود الأثيوبيين، وهو ما كان بارزاً في تفجّر احتجاجات اليهود الأثيوبيين أو يهود الفلاشا في 2015 عقب انتشار فيديو لإعتداء مجموعة من أفراد الشرطة على شابّ يهودي، الأمر الذي أشعل احتجاجات الفلاشا، وصرّح نشطائهم أنهم لا يحتجون بسبب الاعتداء فقط، ولكن بسبب التمييز والمعاملة السيئة التي يتعرضون لها في الأصعدة كلّها أيضاً.
ويجادل المؤرّخ الإسرائيلي موشيه زيمرمان بأن غالبية اليهود (الجدد)- المهاجرين إلى إسرائيل (خاصة بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي عام 1991) ينتمون إلى أصول ومجتمعات أوربية، فـ90% منهم من أوروبا الشرقية، إذ يلاحظ أن ثمّة ثورة ديمغرافية في إسرائيل جرت عقب انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرةً، عندما نزحت أعداداً ضخمة من يهود تلك الجمهوريات حتى وصلت أعدادهم المليون مهاجر يهودي، وقد جلب هؤلاء اليهود، كما يقول زيمرمان، "قوميةً يهوديةً عدوانيةً لا تزال قائمةً حتى اليوم"، وهم لا يبالون أن سعادتهم بالهجرة تعني معاناة غيرهم.
وإذا كانت أحدث استطلاعات الرأي قد أظهرت أن ما يفوق 80% من الإسرائيليين اليهود قلقون بشأن المسألة الاجتماعية ومستقبلها، فإن ذلك يكشف الأزمة الاجتماعية التي يتم إرجائها من خلال تزكية طاقة العنف تجاه الفلسطينيين؛ واعتبارها ضرورة أمنية لازمة لأمن ووحدة المجتمع الإسرائيلي.

يعمل الصراع مع الشعب الفلسطيني لتأجيل ظهور التناقضات الاجتماعية والثقافية في المجتمع الإسرائيلي

ويتّفق علماء الاجتماع أن المجتمع ذو البنية والقوى المهاجرة يحمل صوراً شتى من التناقضات والمشكلات المستمرّة، فهو مجتمع غير متجانس، متعدّد الولاءات، يقوم على التطوّر الاستثنائي الُمتعمَّد، وليس التطوّر الطبيعي في ضوء الظروف التاريخية للتكوين الاجتماعي المحلّي، ومن ثمّ يواجه مزيداً من مشاكل الهوية والاندماج والاستقرار الاجتماعي، وقد أدرك روّاد علم الاجتماع أمثال ماكس فيبر المخاطر الذي تمثّله الهجرة على السكّان الأصليين، عندما حذّر عام 1895 من آثار هجرة الفلاحين البولنديين على المزارعين الألمان، ويرصد لنا أستاذ علم الاجتماع في جامعة حيفا، ماجد الحاج، في كتابه "الهجرة والتكوين العرقي في مجتمع شديد الانقسام... حالة المهاجرين من الاتحاد السوفيتي السابق في إسرائيل"، خطورة هجرة الروس، ليس فقط على الوجود العربي، ولكن أيضاً على بنية المجتمع الإسرائيلي ذاته، حيث يرصد مؤشّرات ظهور ثقافة فرعية وفقاً للغة والثقافة الوافدة، وبما يعزّز التمايز والتباين الثقافي والإثني، علاوة على التمايز الطائفي، واتجاه كلّ جماعة قومية مهاجرة إلى تكوين جماعة قومية أو إثنية صغيرة داخل المجتمع الإسرائيلي. ومن ثمّ، يواجه ذلك المجتمع مزيداً من مشاكل الهوية والاندماج والاستقرار الاجتماعي، وقد يضطر لبناء هُويَّة مصطنعة لضمان إجماع وتكامل المهاجرين، وهو الأمر الذي شرحه زيمرمان حين رأى أن ثُمن مواطني إسرائيل اليوم هم من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، أولئك الذين جاءوا جلبوا معهم ثقافتهم ولغتهم، وهم يحافظون عليهما في منازلهم وحياتهم الشخصية. ويضيف زيمرمان أن هذا هو السبب وراء سماع كثير من اللغة الروسية في الشوارع، لأن العديد من الإسرائيليين الجدد أقلّ احتمالاً بكثير أن يتكلّموا اللغة العبرية مقارنةً بالأجيال السابقة من المهاجرين.
والمجتمع الإسرائيلي ليس مجتمع فسيفساء فحسب، بل إنه مجتمع مهاجرين أيضاً، وتلك مشكلة مركبة تضاف إلى نسيجه الاجتماعي، إلا أن الصراع مع الشعب الفلسطيني يعمل على تأجيل ظهور تلك التناقضات الاجتماعية والثقافية، إذ يتم إخفائها والتقليل من شأنها بحجة الوحدة القومية في مواجهة أعداء كُثر. وفي سبيل ذلك يدّعي المسئولون الإسرائيليون أن الإسرائيليين متّحدون، وأن مسألة التباينات العرقية والثقافية والجذور القومية المختلفة باتت أمراً قديماً لا وجود له، وهو ما تنتقده ليهي يونا، الباحثة الإسرائيلية بجامعة حيفا، وترى أن سبب هذا الاعتقاد "المضلّل" ندرة البيانات حول السكّان المزراحيين، إذ "لا يسمح بنشر بيانات إثنية، إلّا تلك التي تقارن السكّان اليهود بشكل عام بالعرب". 
وهم الهوية الدينية الجامعة
من هو اليهودي؟... يكشف التساؤل، الذي طرحه ديفيد بن غوريون عام 1958، أزمةً عميقة في بنية المجتمع الإسرائيلي، أزمة تطال مصدر التضامن، وسرّ البقاء. ففي رسالة أرسلها بن غوريون إلى 51 من القادة والمفكّرين ورجال الدين اليهود حول العالم، يطلب منهم المساعدة في حلّ الأزمة السياسية التي شهدها الكنيست الإسرائيلي في يوليو/ تموز 1958، نظراً (كما ذكر في خطابه) "للخلاف حول منح الجنسية الإسرائيلية لأبناء الزواج المختلط، والحاجة إلى صياغة إرشادات تسجيل المواطنين، وبما يتماشى مع التقاليد المقبولة من جميع الفئات اليهودية، الأرثوذكس والليبراليين من جميع الاتجاهات، ومع الظروف الخاصّة لإسرائيل أمّةً يهوديةً ذات سيادة تضمن حرّية الضمير والدين، وتكون مركزاً لجمع المنفيين".
ومن المثير أن يذكر بن غوريون أن إسرائيل مركزاً لجميع المنفيين في الوقت الذي طُرِد ما يناهز 750 ألف فلسطيني من أرضه بلا رجعة (النكبة)، بينما لا مانع من استقبال أيّ أوربي يعلن أن ابنه أو زوجته يهودية، وذلك وفقاً لقانون العودة الصادر عام 1950، الذي يشمل كلّ لاجئ يثبت أن له أصول يهودية، وكان ذلك القانون يتعارض مع قواعد السلطة الحاخامية التي ترفض فكرة الاعتراف باليهودي من الزواج المختلط، أو بمُجرَّد الاعتراف بأنه يهودي من أصول يهودية، ومن ثمّ كان قانون العودة في قلب النقاشات التي جرت (ولا تزال) بشّأن من هو اليهودي والهُويَّة الإسرائيلية.
ووفقاً لأحدث الإحصائيات المنشورة فإن عدد اليهود حول العالم لا يزيد عن 15.7 مليون يهودي، يعيش 46% منهم في فلسطين المحتلة، وتُبين الإحصاءات الحديثة أن ثمّة مشكلة جوهرية تحيط بحقيقة الهُويَّة الدينية للمواطَنة، إذ إن نصف اليهود الإسرائليين يصفون أنفسهم بأنهم علمانيون، هذا في الوقت الذي يقول فيه واحد من كلّ خمسة يهود إسرائيليين إنه لا يعتقد بوجود إله.
ويمثلّ ذلك التباين في معنى الهُويَّة الدينية مثاراً للصراع الاجتماعي في المجتمع الإسرائيلي، وتباعد الثقة بين القوى العلمانية والمتدينة المتطرّفة، ومن ثمّ تنجح القوى المتطرّفة في ذلك الصراع عبر زيادة مساحة العنف والحاجات الأمنية المُلحة التي تستند إليها في شرعية حكمها، منطلقةً من ضرورة حفظ الهُويَّة اليهودية القومية، واعتبارها مصدراً للتجانس القومي، والاجتماعي.
ويعتبر التمايز والتباين بين القوى الدينية والعلمانية من أبرز نواحي الصراع داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو الأمر الذي عبّر عنه الرئيس الإسرائيلي الأسبق رؤوفين ريفلين (2014- 2021)، عندما قال في خطاب شهير أن المجتمع الإسرائيلي صار يتألف من أربع قبائل (Tribes) رئيسة، وكان ذلك مصطلحاً جديداً في المجال السياسي، لكنّه استخدمه ليؤكّد حالة التنافس بين القبائل الأربع، فحذّر من خطورة تزايد العنف والخوف والتوتّر بين هذه القبائل، التي ينقسم وفقاً لها المجتمع الإسرائيلي، وهي: 
أ- اليهود العلمانيون والمتديّنون المعتدلون (مازورتي)، ويشكّلون معاً أكثر من نصف المجتمع الإسرائيلي.  
ب- المتدينون القوميون (تيّار الصهيونية الدينية)، ما يناهز 15% من السكّان الإسرائيليين.
ج- اليهود الحريديم المتشدّدون، يشكّلون 13% من السكّان على الرغم من أنهم لا يعبأون بالمجال والصراعات السياسية، ويريدون الحياة بمعزل عن تقاليد المجتمع الحديث، ويعتقد أغلبهم أن الدولة اليهودية الحقّة لا بدّ أن تقوم بعد عودة المسيح، وقد نجحت الأحزاب اليمينية المتشدّدة في تعبئتهم خلفها وجعلهم من مؤيديها.
د- العرب (فلسطينيو الأراضي المحتلة عام 1948) حوالي 21% من سكّان إسرائيل، يعتنق أغلبهم الدين الإسلامي وفقاً للمذهب السنّي، مع تكوينات أقلّ للمسيحيين والدروز.
ويُعتبر التوتّر بين اليهود المتدينين (خاصة الأرثوذكس) والعلمانيين واحداً من أكثر مكوّنات الصراع الداخلي في إسرائيل أهميةً، إذ يؤمن اليهود الأرثوذكس بضرورة الالتزام الصارم بالشريعة اليهودية، وفي نفس الوقت يرون أن قوانين الدولة يجب أن تخضع للقيم الدينية، ومن ناحية أخرى فإنهم ينتقدون بشدّة سلوكيات العلمانيين، خاصّة سكّان تلّ أبيب الذين يغلب عليهم الطابع الليبرالي.

كشفت مسيرة الأحداث منذ السابع من أكتوبر أن المجتمع الإسرائيلي المعتمد على مصادر خارجية للبقاء، يواجه أزمةً حقيقيةً تهدّد بقائه، إذ تتراجع أعداد المهاجرين وتزداد الهجرة العكسية

المسألة الديموغرافية 
"خرجنا، وكان بن غوريون يرافقنا، كرّر ألون سؤاله: ماذا نفعل بالسكّان الفلسطينيين؟ لوّح بن غوريون بيده في إشارة تدل على: أطردوهم". تشرح هذه العبارة التي أوردها اسحق رابين في مذّكراته الموقف من المسألة الفلسطينية. ففي مقابل التخلّص من السكّان الفلسطينيين تشجّع الاستراتيجية الديموغرافية الهجرة اليهودية، ورفع معدّلات الخصوبة والإنجاب، وتفيد التقارير الدولية أن المجتمع الإسرائيلي يشهد خصوبةً "مرتفعة وغير عادية"، حتى مع انخفاض المواليد، فأغلب اليهود يردّدون أحد نصوص سفر التكوين "وليكونوا جمهوراً غفيراً داخل الأرض". وبالفعل يتلاقى ذلك مع سلوكيات وتصريحات المسئولين الإسرائيليين الذين يبلغ عدد أبناء بعضهم 12 طفلاً، علاوة على الإنفاق المرتفع في مجال التلقيح الصناعي والعناية بصحّة الأمّ، وكفالة الأطفال بشكل شامل حتى سنّ الثامنة عشرة، وهي كلّها سياسات تضمن التفوّق الديموغرافي للمجتمع الإسرائيلي، وتضمن كما قال بن غوريون "عدم عودة العرب إلى منازلهم فالكبار يموتون والصغار ينسون".
وكما قال ميشيل فوكو فإن المسألة الديموغرافية هي جزء من عملية وقوة السلطة الحيوية، حيث أن السيطرة على السكّان تُعتبر ضرورة حيوية لضمان استمرارية الدولة ونجاحها على المدى الطويل، وبما يعزز الخصوبة والهجرة خاصّة في القوى اليمينية المتشدّدة الأكثر إنجاباً، وبما يعمل لحل مشكلة النظام الاجتماعي، ليظهر مجتمع متشدّد يمارس العنف بحجّة الخطر الوجودي، ويصرف الأنظار عن التمايزات البنيوية في قلب وهيكل المجتمع. وبشكل عام فإنه بالرغم من تلك الفسيفساء التي تسم المجتمع الإسرائيلي إلّا إنه يكاد يتّفق على عدم حلّ القضية الفلسطينية، أو منح تنازلات كبيرة للفلسطينيين، وفي أحسن الأحوال القبول بدولة محدودة وتابعة، إذ نجحت القوى الصهيونية الدينية في تشكيل المزاج العام معتبرةً أن وجود دولة فلسطينية يهدّد المجتمع الإسرائيلي المنقسم، ويُعجّل فرص انهياره نظراً للمشكلات والتناقضات التاريخية والاجتماعية التي تجعل وجود هُويَّة وشعب آخر خطراً لا يمكن التعايش معه أو قبوله.
ولقد كشفت مسيرة الأحداث منذ 7 أكتوبر (2023) أن المجتمع الإسرائيلي المعتمد على مصادر خارجية للبقاء، يواجه أزمةً حقيقيةً تهدّد بقائه، إذ تتراجع أعداد المهاجرين وتزداد الهجرة العكسية.
تراجعت معدّلات هجرة اليهود إلى فلسطين بشكل قياسي، إذ وصل عدد المهاجرين 46 ألفاً في عام 2023، مقارنة بالعام الذي سبقه (2022)، الذي شهد أكبر موجة هجرة منذ سنوات طويلة (73 ألفاً)، الأمر الذي يؤكّد التحدّيات والانقسامات التي تواجه بقاء ومستقبل المجتمع الإسرائيلي، وتفسّر رفضه وجود دولة أو كيان فلسطيني مستقل مجاور لهم، ذلك المجتمع الذي يقاتل، كما يقول إبراهيم نصر الله في روايته "زمن الخيول البيضاء"، لا لينتصر "ولكن كي لا يضيع حقّه".