غويتسولو.. المحترم النبيل

09 يونيو 2017

غويتسولو.. آخر المثقفين الأوروبيين المحترمين (23/3/2013/Getty)

+ الخط -
هناك، في غرفةٍ في دارته، في درب سيدي بوالفضايل في زقاق حي القنّارية في مراكش، كانت صورة جان جينيه على الجدار، فسألت خوان غويتسولو، مضيفَنا، أنا وعبد الغفار سويريجي، عن صلته بصديقه الراحل، فقال لنا، مما تسعفني الذاكرة من تلك الزيارة قبل 23 عاماً، إنه، في شبابه الأول في باريس، تعلّم من جينيه الوفاء للأدب، مع الانحياز للمظلومين. وهناك، في العرائش في شمال المغرب، دفن غويتسولو، الثلاثاء الماضي، مجاوراً قبر صديقه العتيق، وقد توفي عن 86 عاماً، بعد أن رابط بجسارةٍ على مواقف مبدئيةٍ ونظيفة، وظل مثقفا وأديبا أوروبيا استثنائيا، ونبيلا، في نقد أي انغلاق، وفي الدفاع عن المضطهدين، وفي رفض مركزية أوروبا وذاتيّتها، وفي مناوأة كل دكتاتورية. وربما ليس من مجازفةٍ الزّعم هنا أنه كان آخر المحترمين من الأدباء العالميين الزاهدين، ليس فقط لأنه أحبّنا، نحن العرب، وشغُف بثقافتنا، الشعبية والإسلامية والصوفية، وعاش بين المغاربة عقودًا، وتعلم عاميّتهم الدارجة (لم يتعلم العربية الفصحى!)، وأقام ومات بين بسطائهم، بل أيضا لأنك لا تُصادف لهذا الرجل موقفاً لم يكن فيه رائعًا، وهو الذي رأى الثورة السورية أشجع الثورات العربية، وجهر بتنديده بوحشية الأسد. 

كتب عن الفلسطينيين، وعن نضالهم وأحوالهم تحت الاحتلال. ويعجبك موقفه، في زيارته الثالثة فلسطين، مع وفد الكتاب العالميين (ساراماغو، سوينكا، غونتر غراس، ...) في عام 2002، عندما أضيفت إلى جولتهم زيارةٌ إلى ياسر عرفات المحاصر، لم تكن مدرجةً في برنامجهم. حاول الاستنكاف، ثم وافق استجابة لرغبة زملائه. قال يومها إنه لا يهوى مقابلة السياسيين، لأنهم لا يقولون شيئاً مهماً، وإنه يزور عرفات باعتباره فلسطينياً محروما من الحركة، لا بصفته رئيس سلطة. وكان عقب اتفاقية أوسلو قد نشر استطلاعاته الصحافية عن الفلسطينيين تحت الاحتلال في "الباييس" الإسبانية (أتذكّرها بترجمة الصديق طلعت شاهين). أما زيارته الأولى لهم فكانت في غضون انتفاضة 1988 التي أنجز استطلاعاتٍ تلفزيونيةً عنها. وقد أوضح أنه يكتب عن فلسطين، بصفته معنياً مباشرة بالنضال الذي يخوضه شعبٌ للدفاع عن أرضه وذاكرته في مواجهة فظاعة الاقتلاع ومناخ الأساطير الخادع. ومما قاله لي، في مقابلةٍ صحافيةٍ منشورة، إنه ليس متطرّفا، وإن الواقع يقتضي المطالبة بانسحاب إسرائيل الكامل إلى حدود ما احتلته في 1967. وإلى ذلك كله وغيره، كان غويتسولو على معرفةٍ مبكرة بقادةٍ من "فتح" منذ 1968، وأقام على صداقةٍ مع محمود درويش (نال جائزته وتسلمها في العام 2011)، وفي كتابه "الاستشراق الإسباني" (ترجمة كاظم جهاد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1987) أفاد من إدوارد سعيد وأضاف إليه.
يشتهر خوان غويتسولو بيننا، نحن العرب، مثقفاً كبيراً وصاحب صوتٍ شجاع في الدفاع عن القضايا العادلة، غير أنه، قبل ذلك وبعده، روائيّ له 13 رواية، ترجمت ثلاثٌ منها إلى العربية، لم تشتهر طبعاتُها ولم تُقرأ كثيرا. وعلى ما يفيد مترجم اثنتين منها، إبراهيم الخطيب، فإن أغلب رواياته مركّبة، وفيها تجريبٌ وحداثةٌ لافتان. ومن يسمع أحاديثه عن الأدب، يقع على حرصٍ على جديّة صارمة في مزاولة الإبداع، وعلى تعيينٍ مهم لمزايا كتابة الاستطلاعات الصحافية، وهو حاذقٌ فيها، قرأنا منها نصوصه عن فلسطين والجزائر والشيشان. وعن البوسنة أيضا التي جاءت كتابته عنها حارةّ جدا، وغريبٌ أمرنا، نحن العرب، لم تكترث دار نشر بجمع شغله هذا في كتب، باستثناء "دفتر سراييفو"، بعد زيارةٍ إلى هناك، أتبعها تالياً بأخرى، قال إنه لم يفلح في أثنائها في كتابة دفترٍ آخر، فكتب روايته "حصار الحصارات".
أما واقعة رفضه جائزة معمر القذافي العالمية للآداب (هذا هو اسمها) في 2009، لأنها تحمل اسم دكتاتور متوحش، فيحسُن أن نعرف أن غويتسولو سبق أن رفض عرضًا من وزير الثقافة الفرنسي السابق، جاك لانغ، لمنحه وسام الشرف الفرنسي، ودعواه أن مسؤولين فرنسيين نالوا هذا الوسام، ساهموا في ذبح الجزائريين والمغاربة والفيتناميين وسكان مدغشقر، و"شرفهم ليس شرفي". .. وثمّة وقائع ومواقف غزيرة أخرى لهذا الرجل المحترم تدل على أي قماشة كان عليها من الكتاب وأهل الثقافة، غير أن من المهم أن نعرفه كاتب أدبٍ، فلتُبادر دور النشر العربية إلى إصدار ترجماتٍ لرواياته، وكتاب مذكّراته إن أمكن.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.