غودار يتلذّذ بطبخة ورق عنب فلسطينية
آثر صديقنا الشاعر والروائي، إبراهيم نصر الله، في ندوته مع الكاتبة الكويتية بثينة العيسى، ضمن معرض عمّان الدولي للكتاب، في الأسبوع الماضي، أن لا يسترسل في الحديث عن لقائه، إبّان كان فتىً، مع المخرح الفرنسي، جان لوك غودار، لمّا جاءت عليه مقدّمة الندوة، القاصّة شهلا العجيلي، في غضون حديثها عن رواية نصرالله الجديدة "طفولتي حتى الآن" (الدار العربية للعلوم، بيروت، 2022). وأوجَز القول في هذا، مكتفيا بأن في الرواية كثيرا من فضاءات الكاتب الأولى، بأدوات الرواية فنا سرديا، وبتزاوج الواقعي والمتخيّل، وبالانفتاح على سيرة أمكنةٍ وأزمنةٍ فلسطينية. ثم يُتوفّى غودار عن 91 عاما، بعد خمسة أيام من تذكّره في تلك الندوة، فنلقانا نفتّش عنه في صفحات رواية نصرالله الـ512، وفينا محبّةٌ عتيقةٌ لهذا المخرج المجرّب والدؤوب، لمُقام فلسطين في نفسِه، عندما انحاز مبكّرا إلى نضال شعبها، وهو الماويُّ القديم، الذي انضمّ، قبل خمس سنوات، إلى حركة مقاطعة السينما الإسرائيلية.
زار غودار الأردن، في نهاية الستينيات (أو عام 1970)، وبقي شهورا، لإنجاز فيلم، وصفَه بأنه سياسي، عن فلسطين التي يُخبرنا إبراهيم العريس إنها كانت مثل السينما بالنسبة للمخرج الموصوف بأنه من أبرز وجوه الموجة الجديدة في السينما. كثيرٌ من تفاصيل الزيارة، وعن تصويره في أثنائها محاوراتٍ مع فدائيين وسياسيين وأهالي مخيمات فلسطينيين، مبثوثٌ في أراشيف غير قليلة. وحسنا فعلت مجلة رمّان الثقافية (الإلكترونية) أنها أعادت نشر بيانٍ لصاحب "الجندي الصغير" (فيلم عن حرب التحرير الجزائرية)، كانت صحيفة "فتح" قد نشرته في 1970. وفيه مطالعة "مناضلٍ" في مجال السينما التي تقيم علاقة حقيقية مع الناس، لا كما تريدُها الإمبريالية (يفرط في استخدام هذه المفردة). ويكتب إن "منظمة فتح ليست في حاجةٍ إلى أن تكون ماركسيةً بالكلمات والشعارات، لأنها ثورية بالأعمال والأفعال" (سقى الله!).
ما لا يتوفّر في جذاذات أراشيف فلسطينية عن غودار في الأردن، وفيلمه الذي سمّاه أولا "ثورة حتى النصر"، ثم عُرض في 1974 باسم "هنا وهناك"، أن صاحبنا هذا زار أسرةً فلسطينيةً في مخيم الوحدات في عمّان، وكرّمته بطبخة ورق دوالٍ (ورق عنب)، وأكل بتلذّذ، وهو يسمع أم كلثوم "هل رأى الحبّ سُكارى مثلنا"، بصحبة أفراد الأسرة، الأم التي أعدّت الطبخة التي حضرت رِيَش اللحم في قعر طنجرتها، والإبنة نور التي جاءت بالمخرج صديق خالها. يحضُر مشهد اللمّة الفلسطينية مع غودار حول أكلة ورق الدوالي في رواية إبراهيم نصر الله الذي كان وصديقٌ له جليسيْه أيضا. وكان غودار "بشعرِه المنحسر، ونظّارته الكبيرة ذات الإطار الأسود، ولحيتِه التي نبتت قليلا، ولم يجد وقتا لحلاقتها". يقول السارد الراوي، واسمُه إبراهيم، "كنّا نتابعه بشغفِ من يُتقن الفرنسية، خائفين أن تفوتنا كلمة. كنتُ أنظر إلى نور، فأجدها تهزّ رأسَها كما لو أنها تؤيد كلامه، فأهزّ رأسي تأييدا لهزّة رأسها".
شائقٌ ما صنعه إبراهيم نصر الله في اختيار زوايا النظر إلى مشهد غودار في منزل نور ووالديها. يرى لقمة غودار الأولى، من أطيب طبخةِ ورقِ دوالٍ أكلها إبراهيم (الراوي أم كاتب الرواية؟!) حتى اليوم، أشبهَ بالمشهد الأول بعد ظهور الأسماء على الشاشة في مقدّمة الفيلم، ثم "..، بهدوء تذوّق الطعام، فأحسسْنا أننا أمام مشهدٍ بالتصوير البطيء. كان يتلذّذ مغمضا عينيه، في الوقت الذي راحت فيها أعينُنا تتّسع. وترقرق دمعٌ في عيني أم نور" التي أرادت، من طبختها، أن "تبيّض وجه الشعب الفلسطيني كله، فالرجل قادم من أجلنا".
أخبَرَنا نصر الله في ندوة معرض عمّان للكتاب أنه لم يأت في روايته (السيرية) على تفاصيل كثيرة عن اللقاء مع جان لوك غودار. ولكن ما أعقب مشهد أكلة ورق الدوالي جاءَ على حديث المخرج عن فيلمه، أنه "عن الفدائيين، عن فلسطين والفلسطينيين، لكن أحبّ أن أقول إنني لم آتِ إلى هنا لإعطاء الدروس، بل جئتُ إلى هنا لأتلقّى الدروس، وأتعلم من أناسٍ هم متقدّمون علينا، فالذي يقاتل من أجل حريته متقدّم على ذلك الذي يحبّ الحرية فقط". .. لم ينتبه إبراهيم (الراوي أم كاتب الرواية؟!) قبل الإنصات إلى غودار إلى أن السينما أجمل فنّ في الدنيا. وقد جرت في "طفولتي حتى الآن" أحاديثُ مسترسلةٌ بين بعض شخصياتها عن فنون الشعر والرواية والغناء والموسيقى .. وعن غودار الذي نام، ومن معه، في منزل تلك الأسرة، بعد سهريةٍ مع طبخة ورق دوالٍ شهيّة.