غسّان كنفاني في كارفور

25 يوليو 2022

(سام غيليام)

+ الخط -

في مثل هذا الشهر من عام 1972، استشهد غسّان كنفاني. وربما لكثيرين منا علاقات متقطّعة مع هذا الكاتب، والمقصود قراءة الأعمال التي تركها، والتي تشبه لعبةً لا تملّ، حسب عنوان شعري للصديق الراحل محمد الحارثي. قصصه كما رواياته، يمكن أن تكرّر قراءتَها أنّى سنحت لك الفرصة، ويمكنك أن تتعلم منها، لأنها تنمّ عن وعي تجديدي بالأساليب، والتقديم (المتأخر)، إن جاز التعبير، لأفكار القصص ومضامينها، ما طال منها وما قصر. وهي من الكتابات التي يمكن أن نشغف بسهولة ليس بقراءتها فحسب، بل أيضاً بكتابتها، وذلك لما تكتنفها من تأويلات وعبارات بليغة. وليس غريباً أن يترك كنفاني جزءاً من تراثه الروائي غير مكتمل، بسبب رحيله المباغت، وكأنه أراد منا أن نكملها بطريقتنا.
كنت أظنّ أنه لا توجد رواية تفوق روايته "رجال في الشمس". قرأت قصصه القصيرة الكاملة التي قدّم لها يوسف إدريس، وكانت بمثابة مدرسة متقدّمة في تعليم كتابة القصة باللغة العربية. لم أقرأ جميع الروايات. كان في نفسي شيء من "عائد إلى حيفا". أخيراً، كنت أجوب الطرقات الباردة لمحل كارفور في مسقط، وهو ملجأ مهم في الظهيرة، بعد أن تستعر حرارة المحيط في فصل الصيف اللاهب، حين صعدت إلى الطابق الثاني، حيث توجد مكتبة "روازن" يديرها الصديق والمترجم عن الإنكليزية أحمد المعيني وعائلته. كانت "روازن" أشبه بمكتبةٍ وسط السوق المغلق لـ"سيتي سنتر"، أو كما يحلو لنا أن نسمّيه كارفور، بسبب التصاق التسمية القديمة بهذا المكان. هناك وجدت طبعة جديدة من هذه الرواية، وأنيقة (أشبه بروايات الجيب)، طباعة دار الرمال، مؤسّسة غسان كنفاني الثقافية ببيروت. وكانت المفاجأة أن الغلاف لوحة غسّان. مع إشارة إلى أن الرواية نُشرت أول مرة عام 1969، وأن هذه الدار طبعتها أكثر من مرّة، ما يدل على اتساع مقروئيتها حتى يوم الناس هذا.
جلستُ في مقهى قريب، غير بعيد عن المكتبة "روازن". وعند منتصف طريق القراءة لهذه الرواية المكتوبة بذكاء شديد، صرتُ على قناعة بأن "عائد إلى حيفا" هي أسطورة غسّان كنفاني، وليس "رجال في الشمس" التي طارت شهرتها في الآفاق، وتحولت إلى فيلم، والتي تقوم على لقطة ذكية، وعلى صغرها مشحونة بالأحداث ومليئة بحسٍّ إنساني عال، وتتقاطع فيها المصائر، فيما بدت "عائد إلى حيفا" مكتوبة ببساطة وبإيقاع هادئ، ولكنه عميق مفعمٌ بالحنين، ويرفض أن يغادر قارئه بسهولة.
تمتاز هذه الرواية، ضمن ما تمتاز به، بالوصف الهادف الذي يؤدي إلى معنى. على سبيل المثال، حين شاهد سعيد بيته بعين عاجزة، بعد العودة، وقد سكنته عائلة إسرائيلية "... وفي الوسط، كانت الطاولة المرصّعة بالصدف هي نفسها، وإن كان لونُها قد صار باهتاً، وفوقها استبدلت المزهرية الزجاجية بأخرى مصنوعة من الخشب، وفيها تكوّمت أعواد من ريش الطاووس. كان يعرف أنها سبعة أعواد. وحاول أن يعدّها وهو جالس مكانه، إلا أنه لم يستطع، فقام واقترب من المزهرية، وأخذ يعدها واحدة واحدة، كانت خمسة فقط.
وإذا كانت ذاكرتنا تحفظ عبارة "الوطن هو ألا يكون كل ذلك يا صفية"، حتى قبل أن يقرأ بعضنا هذه الرواية، إلا أن ثمّة عبارات كثيرة لا تقلّ عمقاً تزخر بها الرواية المفعمة بالمشاعر، والمصوغة صياغة بليغة تدلّ على كاتب خبير بمادته يسرُدها من الداخل ببطء شديد. مثل هذه العبارة التي قالها مطمئناً الساكنة الجديدة التي بدت متوترة لوجود الساكن الفلسطيني الأصلي في البيت: "وقطع سعيد الصمت، قائلاً بهدوء: طبعاً، نحن لم نجئ لنقول لك اخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب". كذلك فإن فكرة هذه الرواية تدلل على البعد الاستشرافي، فغسّان كنفاني الذي قتله الموساد، وهو الأعزل إلا من قلمه، يبدو، من خلال البعد الإنساني العميق للرواية، واقعياً واستشرافياً، وداعية للسلام أكثر من الحرب، وإلى احتمالية التعايش على أساس المساواة في الحقوق. ولكن ليس على طريقة الاحتلال، سلام من طرف واحد، بل على الطريقة نفسها التي طالما دعا إليها المفكر الكبير إدوارد سعيد، وهو يصف نتائج زياراته لجوهانسبرغ.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي