عيد المرأة يعادل عيد الرجل خطورةً
كانت الثورة النسوية طوباوية. تقول إحدى قواعدها إن حرية الرجل لا تستقيم، لا معنى لها، إذا كانت المرأة محرومة منها. يجب أن يتساوى الاثنان ليكونا حرّين بالمعنى الكلي للكلمة، ويبلغا بذلك السعادة الأبدية. ومختلف موجات هذه الثورة كانت تنسف تقسيم العمل المكروه، تخترق مجالات الرجال، تكتسب مهاراتهم... إلخ. بحيث تحوّلت النسوية من ثورة هامشية إلى بداهة وانتشار، وصار خطابها جزءاً من الفكر الصائب المطلوب والمقبول. ففي العام أجمع، تسمع بالنساء، وصلن، أنجزن، اخترعن، ارتقين. وصارت النساء مثل كل القضايا العادلة، لها من يبتزّ باسمها. ربما جورج بوش كان أولهم، الذي قال كلمته الشهيرة، منذ عقدين، بعد غزوه أفغانستان: "العلم الأميركي يرفرف مجدداً فوق سفارتنا في كابول (...) اليوم النساء حرّات".
وكانت في أثناء ذلك دفعاتٌ جديدةٌ من الحرية، وشيوع التخصّصات المسمّاة "جندرية"، تقتصر على النساء. وتوسّعها في عالم الأكاديميا، واختراع نظرية "التقاطعات"، حيث يلتقي طلب الحرية حول النوع - المرأة والطبقة - الفقيرة والعرق - السوداء. والموجة الأخيرة، "ميتو" كانت أجدّ المجالات، الجنس، حيث اقتُحِمت الحياة الحميمة، فانفجرت ذنوبٌ قديمة، اغتصاب وتحرّش جنسي، بما لم يكن وارداً قبلها بعشر سنوات.
مع كل هذا الصعود، سادَ خطاب يفنّد الجنسين، بين خيّر، ومخصص للنساء، وشرير تجده عند الرجال. المهم أنه، خلال العقود الأخيرة، انهارت قناعات وممارسات سابقة شيئاً فشيئاً، وتبّدلت أوضاع الرجال. ديناميكيات بمختلف أحجامها وأشكالها ومجالاتها أرغمتهم على إعادة النظر بهويتهم، بأدوارهم، بالغرام، بالحياة الزوجية، بالزمالة أو الجيرة أو المهنة، باختصار، بحياتهم كلها. وكان من أهم الفنون "الناعمة" التي أغرت الرجال في ثورة النساء أنها جرّتهم إلى تقليدهن في لباسهن، وطلّتهن وأكسسواراتهن، وأحياناً كريماتهن ومساحيقهن. عند التنكّر، لا يستحلون غير هندام النساء. وأشهر تلك التنكّرات ظاهرة "الدراغ كوين"، حيث يصعد إلى المسرح رجل، رجل فقط، يرتدي كل ما تريديه نجمات الغناء الاستعراضي الغربي، بكل حليهن وباروكاتهن وألوان مساحيقهن وكعوبهن العالية الرفيعة... إلخ. وليس بعيداً ذاك الوقت الذي كانت فيه النساء يقلّدن الرجال، من لبس البنطلون إلى اعتماد اسم رجل لتمرير صفقة أو طباعة كتاب، أو التنكّر بلباسهم للمشاركة في معركةٍ أو مسابقةٍ أو عروض فنية ورياضية، كن ممنوعاتٍ عنها.
كل ما تكون فيه المرأة ضحية، تبرّره حجج ومستندات دينية، معلنة حيناً، نصف مسكوت عنها أحياناً
هذا غير الأبوة، وهي منبثقةٌ من تلك الفنون "الناعمة" التي صارت همّاً رجالياً، ليس بمعنى إيجاد وريث ذكر للموقع أو الثروة، إنما للإحاطة والحنان والسهر وكل التفاصيل الصغيرة التي كان الرجل في الأيام الغابرة لا يوليها وقتاً واهتماماً، إلا بصفتها منبعاً للجاه. الآن، سوف تشاهد في شوارع الغرب رجالاً يجرّون عربات أبنائهم الرضّع، يغيّرون حفاضاتهم في الأماكن العامة، يناولونهم الببْرونة (قنينة الحليب).
ردّة الفعل في العالم الإسلامي على هذا الصعود النسائي كانت جذرية. تسيّدَ على عموم الناس فكر الإسلام السياسي، من دون تنظيماته بالضرورة. في العالم العربي، ذي الغالبية المسلمة، عادت سلوكيات الحريم، والتعدّد، زواج القاصرات، جريمة الشرف، وتقليص الخيارات، والعنف المنزلي، القتل المنزلي، التحرّش والإغتصاب. كل ما تكون فيه المرأة ضحية، تبرّره حجج ومستندات دينية، معلنة حيناً، نصف مسكوت عنها أحياناً. وفي فحواها إدانة النساء المسلمات اللواتي يتشبّهن بنساء الغرب.
وتجربة إيران الإسلامية خير سبيلٍ لإسلام سياسي حاكم، منذ بداية حكمه ضد حقوقٍ قليلةٍ اكتسبتها الإيرانيات في ظل حكمٍ مغاير، غربي التوجّه، فكان حجاب المرأة المسلمة دليل مناهضة الاستعمار الغربي، رايةً تضعها المرأة على رأسها تجسيداً للحرب ضد هذا "الشرّ المطلق". والحرب الآن، بين نساء إيران وملاليها، هي عملياً ثورة من أجل حقوق، نجحت نساءٌ أخريات في نيلها، في مناطق أخرى.
أما غير المتحمّسين للإسلام السياسي، أصحاب شعارات التحرّر والليبرالية، فهم ليسوا أفضل حالاً. يطلقون ألسنتهم كمن ينطقون بفعل إيمان محفوظ وغير مستوعَب، فهم مضطرّون، نظراً إلى انحيازهم، أن "يتبّنوا" ذاك الخطاب القادم من الغرب. ولكنهم، في عموم أدائهم، يعبّرون عن تطلعات لا تختلف كثيراً عما يجْهر به إسلاميون: يستبيحون النساء، يستضعفونهن، يتلاعبون بـ"تحرّرهم"، يتحايلون عليه... إلخ.
الأمر مختلفٌ في الغرب. وردّة الفعل على الصعود ترتدي أشكالاً مختلفة، وإن كان مضمونها واحداً: فخطاب المظلومية الآن صار، في عهدة الرجال، غير مسموع، نظراً إلى اعتراضه على هذا الصعود، الذي أصبح من عيون "الصواب السياسي"، يشبه التلاوة الإيمانية في بعض الأحيان. والإعلام يلعب دوراً ليس هيناً في "التطْنيش" عن هذه المظلومية الرجالية، فهو ينافس خطاب المظلومية النسائي الذائع، ينقل يومياً أخباراً عن تصاعد العنف ضد النساء الغربيات. ولكن العنف ضد النساء وقتلهن هما بالذات من ردود الفعل الرجّالية على مكاسب النساء. ذاك العنف المنزلي، الخاص، الحميم. هل كان أقلّ درجة في الأيام الغابرة، عندما كانت النساء يرزحن تحت قيادتهم؟ لا أعرف، إنما أرجّح أنه كان أقل. لأن النساء كن مندمجاتٍ "عضوياً" في نظام البطريركية، ينظُرن إليه كما لو كان القدر، أي أنه حتمي.
المفارقة أن حركة "التفوق العنصري الأبيض"، أكبر القواعد الشعبية الداعمة لترامب، تملك، هي الأخرى، "نسوياتها البيض"، أي التيار النسائي السفْلي، ذا التوجه العنصري العلني والعميق
ولا تقتصر ردّة الفعل على ذلك، فالرجال أصبح لهم منظّرون وروائيون ومنظِّمون يروون عن الظلم الذي يتعرّضون له. الروائي الفرنسي مثلاً، ميشال أُولبك، صاحب "الرؤية" الرجعية تماما، الكاره للإسلام، والمبهور بقوانينه الشخصية، التي تتيح للرجل أربع زوجات... ميشال أُولْبك هذا أصبح اليوم روائياً عالمياً، تُرجم إلى أربعين لغة. وكلما "ضربت" واحدة من رواياته ذهب أبعد مما بدأ.
أما أمر "تنظيم" الرجولة المظلومة، فكانت طليعته منظمة "أنْسل". والاسم مشتق من كلمتين بالإنكليزية: العازب، وقسراً. ظهرَ هذا التنظيم في بداية التسعينيات، بكلام معادٍ للنساء، بنقمة ضدهن، لعدم "إيفائهن حقوقهم الجنسية"، وعدم إيجاد امرأة تلبي هذه الحقوق. اشتهرت هذه المنظمة بعمليات قتل نساء جماعة وأفراداً في أميركا الشمالية. بينها وبين المنظمات الرجالية المدافعة عن حقوق الأب والزوج المطلق أو المنفصل، فرق في الأسلوب وبعض الكلام العلني. والمحصلة أن حركة مدنية ذات العشرات من الجمعيات، يشهدها الغرب، تناهض النساء وحرّيتهن، باسم مظلومية رجالية. وهذه الحركة "التحتية"، رافعة "المظلومية"، يدعمها رجال في أعلى السلطات التنفيذية، فبعد بوش الذي كان يريد "تحرير الأفغانيات" بغزو عسكري لبلادهن، جاء عصر دونالد ترامب، حامل أكبر قدر من احتقار للنساء، والتعدّي عليهن لفظياً وجسدياً، وانعدام العيب عنده من تحرّشه بهن وتقبيح من ليست موضوعاً لذلك.
والمفارقة أن حركة "التفوق العنصري الأبيض"، أكبر القواعد الشعبية الداعمة لترامب، تملك، هي الأخرى، "نسوياتها البيض"، أي التيار النسائي السفْلي، ذا التوجه العنصري العلني والعميق. نساؤه معادياتٌ لحركة تحرّر النساء الأميركيات السود، يدافعن عن عنصريّتهن بتعبيراتٍ نسوية، فهن من صميم الحركة العنصرية الرجالية المناهضة لحقوق السود، والساعية إلى تهمشيهم في الحياة العامة. النسويات العنصريات يستخدمن سلاح تحرّر المرأة البيضاء لمحاربة تحرّر النساء السوداوات.
في عيد المرأة، تحية لكل إنسانٍ يحاول، وسط هذه الفوضى، أن ينظر إلى موضوعٍ المرأة بصفته موضوعاً للرجل أيضاً
ويترافق هذا كله مع عنف جسدي ضد النساء، من قتل وضرب وتشويه واغتصاب. أي أن اللوحة ليست مستقرّة المعالم. يختلط بداخلها الظالم(ة) والمظلوم(ة)، رجال لا يتحمّلون تجريدهم التدريجي من امتيازات أو حقوق كانوا يتمتعون بها. أيّدوها، في البداية، نظراً إلى قوّتها، وربما لقوة روح عصرها الماضي، ولكنهم، الآن، يجدون أنفسهم مظلومين. وهم على حقّ. أية فئة، أي طبقة، أو عرق أو قومية، لو انتزعت منه حقوقاً أو امتيازات، سوف يردّ، وبعنف. تصوّر نفسك مكانهم. هل كنت ستتنازل بهذه السرعة والسهولة؟ ستكون ساعتها رخواً أو خانعاً أو صاحب تقية.
مؤرخة أميركية، واسمها جوديت ألِن، تنْكر على هذه الظواهر صفة "الأزمة"، تقول إن الرجال يدّعونها وحسب. إنهم لا يمرّون بأزمة، ذلك أن الأزمة تنجم عن "تحوّلات عميقة"، تراها أنها لم تحصل. وبالتالي، اخترع الرجال "خطاب الأزمة"، من دون مبرّر. ودعماً لفكرتها، تروي عن روما القديمة والقرون الوسطى، حيث كان الرجال أيضاً يتذمّرون من النساء، ويخْتلون ببعضهم، ويخترعون المزيد من الحقوق لهم. إذا، الرجال العصريون، بنظرها، لا يفعلون الآن غير ما كانوا معتادين عليه أيام سيطرتهم المطلقة على النساء.
إنه العمى الأيديولوجي وحده، النسوي، الذي يحرم مؤرخةً من رؤية ما تشهده بلادها، حيث أسرع نهوض نسائي، مقارنة بالبلدان الأخرى. ما يسمح لها أيضاً بالتغاضي عن كون متذمِّري روما والقرون الوسطى كانوا من الزعماء والأباطرة وكبار الوجهاء، فيما دعاة المظلومية الرجالية هم خليطٌ من رجال الطبقة الوسطى الميسورة، ذوي التعليم العالي، والمثقفين وعلماء النفس، والناشطين الميدانيين، وطبعاً جمعيات الرجال المطلقين أو المنفصلين، ومنظمات مسيحية تنظّم خلْوات رجالية، فضلاً، كما ذكرنا، عن مجموعات العنصريين البيض.
في عيد المرأة، تحيّة لكل إنسانٍ يحاول، وسط هذه الفوضى، أن ينظر إلى موضوع المرأة بصفته موضوعاً للرجل أيضاً، وإلى عيد المرأة بصفته يتساوى بعيد الرجل خطورةً.