يغادر حزب الله ويبقى من صدَّرهم
حسناً، تخلّصنا من هيمنة حزب الله على لبنان. ولكنّ الرجال الذين اغتنوا وصعدوا وتولّوا بفضل مَكْرمات الحزب عليهم، ما زالوا هنا، "يحكمون" ويستقبلون ويزورون ويكوِّعون ويصرّحون وينوبون عن اللبنانيين، ويقرّرون من يكون الرئيس القادم، ويرأسون الوفود، بأبهة أو من دونه، ويكادون يرفعون النصر لسقوط بشّار الأسد.
في الأمس القريب، لم يتوقّفوا عن التنافس في كيفية إرضاء الحزب و"عمقه" السوري الإيراني، طمعاً بحصّة وزارية أو بمنفعة أمنية أو بمنصب في رئاسة ما. وها هم اليوم يقدّمون آيات الامتنان لسورية الخالية منه، وأكثرهم كوميديةً يُعلن أنه كان مع الحزب نصوحاً بأن "تلك العلاقة مع الشام كذا وكيت"، وبأن الحزب "لم يردّ عليه". هم يصفون أنفسهم "براغماتيّين" عندما ينظرون إليها في المرآة. والواقع أن جميع مرادفات الانتهازية لا تغطّي صورتهم، وربّما لا تصلح، فهم لا يرون ما يراه الجميع بأنهم إن تحرّروا من حزب الله، فليس بفضل شطارتهم، إنما بشرّ إسرائيل. يعني بوضوح، إنه لو لم تحتض إسرائيل هذه الحرب على الحزب، لما كانوا يسرحون الآن. هم الذين كانوا منذ بداية هذه الحرب يقولون أشعاراً في مديح الحزب "المقاوم".
والآن، في لبنان "الجديد" مع سقوط الحزب وبشّار الأسد، يصرخون بنصرهم، تماماً مثل ما كان الحزب "ينتصر" بالأوهام، ويحشو دماغنا بصواريخه وصواريخ طهران الدقيقة. وكأنّ الذي كان لم يكن أصلاً. يسقط الحزب، فلا تسقط المنظومة التي تخرّج منها أكثر الرجال فساداً، وأقلّهم مسؤولية وكفاءة، ممّن عرفهم لبنان في تاريخه الحديث. وعليك تصوّر الوضع بمقارنة بسيطة بين ما حصل في البلدَين الشقيقين، مُتلازمَي المسار والمصير. في سورية، سقط رأس النظام، أي هرب بشّار الأسد، فتساقط معه رجاله، هربوا أو اختفوا أو "كوّعوا". حتى اللحظة، لم يظهر واحد منهم أمام الملأ، بل صار المطلوب محاكمتهم أمام القضاء، واستعادة الأموال التي سرقوها، وكشف أسرار الجلّادين بينهم. أمّا في لبنان، فسقط رأس النظام، أي حزب الله، وبقي الرجال الذين شبّوا في حضنه، ونالوا بفضله المناصب والفضائل والرئاسات، فبتنا في وتيرتَين: سورية سريعة جذرية ديناميكية، ولبنانية جامدة تَعِبة غبيّة. أمّا محاسبة هذه الطبقة، كما محاسبة حزب الله على جرائمه وتواطئه معهم على سرقة الدولة والحدود والأراضي، فتبقى في إطار المسكوت عنه. والحجّة الساترة للعيوب: "إن الوضع لا يسمح". عكس ما كان عليه الوضع سابقاً بين لبنان لا يتوقّف عن ضخّ الأحداث، والمفاجآت، وسورية الجامدة المنسيّة، ولم يتخلّلها إلا ثورة أغرقها بشار بالدم والصمت، بل تحوّل لبنان ملاذَ المجرمين اللصوص السوريين. لا تعرف "الدولة" التي شكّلها حزب الله أين هم؟ كيف دخلوا؟ كيف خرجوا؟ في أيّ فندق استقرّوا؟ ولا تستغرب أن يكون من بين المُكوِّعين من يستقبل أولئك الهاربين من المحاسبة في مقابل حماية من سرقة أو سرّ أو مكاشفة، فيتجلّى الوصف الآسر للبنان بصفته موطن قطّاع الطرق، الهاربين من العدالة.
هل يمكن أن تبعد الانتخابات النيابية هؤلاء الطفيليّين من البرلمان، وتأتي برجال ونساء جدد، ذوي أياد نظيفة؟ ربّما، بشرط أن تكون القوانين الانتخابية عابرةً للطوائف
والمشكلة العملية الكبرى، هي التي تتعلّق بالاقتصاد وبموارد العيش اللبناني. المجتمع الدولي (مصارف، وكالات، استثمارات) مهتمّ بها، لاهتمامه بإنجاح التجربة "الما بعد حزبلهية". بدأ هذا المجتمع يقدّم مشاريع إصلاح مختلفة للنهوض بهذا الاقتصاد، وهي مشاريع قديمة، حاورهم بها هذا "المجتمع" على امتداد سنوات الانهيار الاقتصادي، أي منذ خمس سنوات، وربّما أكثر، وهو الآن يعوّل عليهم (هم الذين بقوا بعد انهيار حزب الله) في أن يبني لبنان جديدا، منطقيا، مخطّطا له، ببنود قاسية على الفساد والمراقبة والحوكمة... إلخ. كيف سيتعاطى رجال الفساد القديم مع المشاريع الإصلاحية الدولية؟ وهم فقدوا من زمان مهاراتهم السياسية ومعاييرهم الأخلاقية، ونالوا من أوصاف دولية قبيحة ما لم تنله أيّ طبقة حاكمة في هذا الكوكب.
ونحن هنا لا يمكن أن نثق بهم، فهم عندما والوا الحزب ومشوا بإرادته، هل كانوا صادقين ومؤمنين بـ"مقاومة" الحزب فعلاً؟ أم كانوا يكذّبون؟ وهم الآن، عندما ينفضون الغبار عن ستراتهم، ويتصرّفون وكأنّ الحزب لم يكن موجوداً في يوم من الأيام، هل هم يكذبون؟ هل يمكن أن يكونوا صادقين؟ أم أنهم كذّبوا على الأقلّ مرّة، إمّا قبل سقوط الحزب أو بعده؟
لبنان عالق بين زمانين. يشبه قارباً شراعياً مُبحِراً على الدوام من دون أن يتقدّم متراً وحداً شمالاً وجنوباً، لا هو يخرج بعد من آثار الهيمنة السابقة لحزب الله على قراره وموارده وحياته، ولا هو دخل في الطور التالي، إذ يُقلَب حكّام المنظومة التي هندسها الحزب.
هل يمكن أن تبعد الانتخابات النيابية هؤلاء الطفيليّين من البرلمان، وتأتي برجال ونساء جدد، ذوي أياد نظيفة؟ ربّما، بشرط أن تكون القوانين الانتخابية عابرةً للطوائف. وهذه العبارة الأخيرة: "عابرة للطوائف"، يسهل إطلاقها من شدّة الأضرار التي لحقت بنا من قوانين الانتخابات الطائفية، التي تُعاملنا كأنّنا صيصان في قفص. إنها معركة صعبة، قد تختلط فيها الوجوه الندية بالطائفيين الراغبين بإعادة تأهيل أنفسهم بحجّة "البراغماتية" نفسها، ولكنّها وطنية جامعة، ربّما الوحيدة التي تستحقّ العناء الآن.