فلسطين وسورية ولبنان... الأقدار المُتقطِّعة

02 يناير 2025
+ الخط -

إنه المشرق العربي. فلسطينيون وسوريون ولبنانيون يتقاسمون المصير نفسه، والاختلاط نفسه، ولكن بتعرّجات وموجات وأمزجة مختلفة، وتأثيرات متدحرجة. سورية الآن في أحلى حالاتها. هرب مجرمها الأكبر، وها هي تحتفل يومياً بعودة أبنائها إليها. لبنان خارجٌ من حربٍ مع إسرائيل قضت على حزبه المهيمن، حليف بشّار الأسد وداعمه الأساس. لبنان المرهق، يترقّب رئيساً جديداً، وخرق إسرائيلي يومي للنار يؤرّقه، ويطيل عذابات النازحين والفاقدين بيوتهم ورزقهم. فلسطين.. لا تسأل، ولا تسأل أيضاً الرأي العام، الغربي والشرقي، عن الفظائع التي يتعرّض لها أهلها يومياً، من دون كلَل في غزّة والضفة الغربية، وربّما في داخل إسرائيل نفسها. هل ضجر هذا الرأي من ذكر يوميات نكبتهم الثانية؟ أم أُحبِط؟ أَخرس، يئس، سُجِن أو قُتِل؟

تريد إسرائيل بناء "جدار أمني"، الكلمة السرّية لـ"المجال الحيوي"، أيّ التوسّع بالاستيلاء على الأراضي

ما يجمعهم أن قصصهم متداخلة، الواحدة منها تقرّر مجرى الثانية، ويردّ هذا الثاني بما حُمِّل من هذا المجرى الجديد. لا تجمعهم الجغرافيا وحسب، إنّما العائلات والقبائل وإسرائيل والتنقّل. تنقّل اللاجئين الفلسطينيين في سورية ولبنان أو اللاجئين السوريين في لبنان. ثلاثتهم عاشوا الخطر الأمني، بتواريخ أحياناً متقاربة، وأخرى متباعدة. ثلاثتهم معرّضون للتقسيم كلٌ بطريقته، وبوحداتٍ مختلفةٍ عن بعضها، أي أن التقسيم الفلسطيني بين السلطة و"حماس" يختلف عن التقسيم اللبناني بين الطوائف والمذاهب، أو السوري بين قوميات، وربّما مذاهب أيضاً، فحربٌ أهليةٌ، باردة أو ساخنة، هي واحدةٌ من الآفاق المطروحة على ثلاثتهم، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة. الثلاثة أيضاً تحت الاحتلال الإسرائيلي. الأقدم هي فلسطين، الأوسع بأراضيها المُبتلَعة منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن، والمحفوظ من هذه الأراضي مُهدّد باستيطان متوحّش. تليها الأراضي السورية. احتلال هضبة الجولان، كان نعمة على حافظ الأسد، إذ قبض من بعده على رئاسة سورية. ولكنّها الآن لديها احتلال إسرائيلي إضافي في هذا الجنوب نفسه، منه جبل الشيخ، أعلى قمم جبالها. ولبنان، الذي تحرّر جنوبه منذ 24 عاماً، عادت إسرائيل واحتلت جزءاً منه. وفي جميع الحالات، تريد إسرائيل بناء "جدار أمني"، الكلمة السرّية لـ"المجال الحيوي"، أيّ التوسّع بالاستيلاء على الأراضي. كانت إيران الفاعل الرئيس في البلدان الثلاثة بقرارات الحاكمين لهذه البلدان، في فلسطين عبر "حماس"، وفي لبنان عبر حزب الله، وفي سورية عبر بشّار الأسد. كان ذلك في فلسطين ولبنان بذريعة "مقاومة" إسرائيل. وفي سورية لحماية كرسّي بشّار الأسد، لكونها "الظهر" الحامي للأولين.
لم يقاوم "البعث" الحاكم إسرائيل منذ هزيمة حزيران (1967)، ولم يسمح إلّا بالمليشيات التي يؤويها، فتحميه. وقبل أن تفتك إسرائيل بالفلسطينيين وترتكب المجزرة تلو الأخرى، يقتل بشّار الأسد أكثر من مليون سوري، ويهجّر الملايين، ويدمّر قرى بأكملها، يتساوى خرابها مع ذاك الذي أصاب غزّة. فيما إيران التي كانت تمتشق سيفها ضدّ إسرائيل، تستعدّ للردّ على ضرباتها الأخيرة لمنشآتها النووية بالصواريخ البالستية، وتطلق التهديدات النارية، ها هي تنسى إسرائيل، وتنقضّ على حكّام سورية الجدد الذين طردوها. لم يعد همّها محاربة الإمبريالية والصهيونية، إنّما النظام الجديد الآخذ بالتبلور في سورية. كأنّ سورية كشفت عن وجه إيران الصادق.

لا دولة في سورية وفلسطين ولبنان منذ نشأتها في "سايكس بيكو"، حكمها الاستبداد والفوضى والمليشيات

أيضاً، اختلاف يتّضح يوماً بعد آخر، الأميركيون، الذين يدعمون الفظائع الإسرائيلية في غزّة، يسهّلون مهام حاكم سورية الجديد "الواعد"، ويرأسون لجنةً تُعنى بوقف النار في جنوب لبنان، هم أنفسهم الأميركيون الداعمون لـ"الدولة" اللبنانية، من أجل تثبيت وقف النار وانتخاب رئيس. فيما تأتي وفود منهم إلى سورية لتنصح زعيمها الجديد بترتيبات الديموقراطية والحوكمة والمرأة وإسرائيل... إلخ. مع تعديل سوري بسيط أن الأتراك في سورية يُشعِرون إسرائيل بأنها تنافسهم عليها، فيتدخّل الأميركي لـ"تلطيف الأجواء". ولا مرّة بدت القضية الفلسطينية في هذا الحال المُفارِق. لبنان وسورية منحاها أفضل وأسوأ ما عندهما، لكونها شغلهما، كلٌ بطريقته. لبنان، كان يدّعي الدوران في فلكها، وسورية تملأ صفحاتها بنصرتها، وفروع مخابراتها بمُعذَّبيها. كانت فلسطين قضية عربية أيام عزّها، وعادت إلى حدود فلسطينيتها. إسرائيل تتوحّش بكل ما أوتيت من شرّ، والغزّيون يحتضرون جوعاً وبرداً وموتاً، ومن حولهم لبنان المنكوب، وسورية التي لا تسعها فرحتها.
نشأت هذه البلدان الثلاثة بحدود وضعها الفرنسيون والبريطانيون (سايكس بيكو) منذ أكثر من قرن. فرّقتها، ولم تلغِ أشياء كثيرة توحّدها؛ التداخل بين خرائطها، العائلات والقبائل الواحدة، التنقّل فيما بينهما لجوءً أو نزوحاً، أو اضطهاد متبادل، وتقاتُل بالسلاح... وربّما أمور أخرى لم نلتقطها. هذا كلّه جعل مصيرها واحداً ومتقطّعاً في آن. ومن ثقوب هذا التفرّق، وُلِدَت اللادولة وترعرعت. غابت الدولة عنها، أو هي غابت. لا دولة في أيّ من هذه البلدان. منذ نشأتها حكمها الاستبداد والفوضى والمليشيات، وجلست فوق بركان لا تنضب حممه.
قد لا تتساوى هذه البلدان في قدرتها على رسم خريطة طريق نحو الدولة العتيدة، أو تتناغم، أو تتصارع. وقد تكون الدولة عنوانها من دون مضمونها، أو شبه دولة، أو دولة ناقصة السيادة والحرّية. ولمن أراد التفاؤل، دولة مهما كان شكلها.