عن ورطة الدستور و"الصحوة المتأخرة" في تونس

10 يوليو 2022
+ الخط -

بين صحوةٍ متأخرة، كما وصفها المفكر العربي عزمي بشارة، في حديثه للتلفزيون العربي 4 يوليو/ تموز الجاري، لرئيس الهيئة الوطنية لوضع مشروع الدستور الجديد لتونس وأعضائها، وأحزاب وشخصيات وازنة ومنظمات وطنية، وما فرضه رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، على التونسيين، في ما اعتبر دستور الرئيس، المفترض أن يُستفتى عليه يوم 25 يوليو/ تموز الجاري، ما بينهما تشهد الأزمة التونسية السياسية تطوراً دراماتيكياً، زادته حدّة الرسالة الانتخابية التي توجّه بها سعيّد إلى التونسيين، وحملت رفضاً قطعياً لدستور رئيس الهيئة، الصادق بلعيد وأعضائها، وإمكانيات تراجع سعيّد عن دستوره أو القبول بتأخير تاريخ الاستفتاء وفتح مجال الحوار من جديد مع أهل الاختصاص والمنظمات الوطنية، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل، بما في ذلك الهيئة الاستشارية التي كلفها سعيّد وضع مشروع الدستور الذي تركه جانباً، والتي تبرأت من مشروع الرئيس، ونعتته بالخطير جداً، والخارج عن كل المنظومات الدستورية والسياسية والأخلاقية.

انطلقت القصة بإعلان رئيس الهيئة الوطنية لوضع الدستور، أستاذ القانون الدستوري، الصادق بلعيد، 3 يوليو/ تموز الجاري، أن هيئته بريئة تماماً من المشروع الذي طرحه الرئيس قيس سعيّد، مشدّداً على أن لا علاقة للنص الصادر عن رئيس الجمهورية بالنص الذي جرى إعداده وتقديمه له، في إشارة إلى أن أحد فصول دستور سعيّد يتضمن عبارة الخطر الداهم، بما يسمح لساكن قرطاج بتمديد ولايته، علاوة على ما تضمنه هذا الدستور من مشروع نظام محلي وإقليمي يتسم بالإبهام والغموض، وينذر بمفاجآت عاصفة وغير متوقعة، خصوصاً أن حصر أعضاء تركيبة المحكمة الدستورية في قضاةٍ يعينهم الرئيس، على غرار ما فعل في الهيئة العليا للقضاء، يقوّض استقلاليتها ويسحب منها صلاحيات المراقبة الحيادية لخيارات الرئيس وتوجّهاته الإجرائية.

وتوّج رئيس الهيئة موقفه بدعوته قيس سعيّد لإلغاء مشروع دستوره وإعادة فتح حوار حقيقي، ثم عرض الدستور المتفق عليه على المجموعة الوطنية للنقاش، والنظر بصفة الدستور عقداً اجتماعياً لا ينسجه الأفراد، بل تشترك في نسجه المجموعات والهيئات ونخب الشعب وأفراده.

وقد فجّرت هذه الدعوة سيلاً من دعواتٍ مماثلةٍ تطالب رئيس الجمهورية بتدارك الأمر، والتفكير الجدّي والمسؤول بمراجعة مشروع دستوره، بما يجعله نصّاً صالحاً ودائماً للدولة المدنية ومكتسباتها الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية مع سعيّد وما بعد سعيّد. وأيدت شخصيات وطنية وازنة، ومنظمات وأحزاب عارضت سعيّد، وأخرى وقفت إلى جانبه مباشرة بعد "25 يوليو"، إبّان تعسفه على الفصل الـ 80 من دستور 2014، والمضي في انقلابه على البرلمان والهيئات الدستورية وما جاء به دستور 2014.

مشروع الرئيس كان جاهزاً، وما تكليف هيئة الدستور إلا واحد من أشكال التمويه السياسي والإخراج المسرحي، بغرض إضفاء شرعية ومشروعية على دستوره الذي كتبه بنفسه

رئيس هيئة الدستور وأعضاؤها، على الرغم من صحوتهم المتأخرة، وعدم تبنّيهم نيّات انقلاب الرئيس على البرلمان، وعلى النظام السياسي، وعلى التجربة الديمقراطية التونسية الفتية، وكان يفترض أن تكون مواقفها واضحة منذ البداية، قبل أن تتورّط في مشروع سعيّد وتصدق دعوته لوضع دستور جديد لتونس، وتجمع هذه الجهات الرافضة مشروع سعيّد الدستوري، والتي تتوسّع دوائرها من يوم إلى آخر، على ضرورة تعديل مشروع الدستور، أو المرسوم المتعلق بالاستفتاء، ليجري الاختيار في اقصى الحالات على أحد المشروعين، مشروع سعيّد أو مشروع اللجنة الاستشارية التي كلفها وضع الدستور ثم تركه جانباً، ما أكّد أن مشروع الرئيس كان جاهزاً، وما تكليف هذه الهيئة إلا واحد من أشكال التمويه السياسي والإخراج المسرحي، بغرض إضفاء شرعية ومشروعية على دستوره الذي كتبه بنفسه، وفاجأ به الجميع. وها هو يمضي في فرضه على التونسيين، رغم تأكيد هذه الشخصيات والمنظمات والأحزاب عزمها في صورة عدم تراجع الرئيس على دعوة الناخبين إلى التصويت بـ "لا"، والنضال من أجل ذلك بكل الوسائل المدنية والقانونية الممكنة، التي لا تستثني، حسب قولهم، تجييش الشارع، وما يعني ذلك من انزلاق للعنف بين مؤيدي سعيّد ومشروعه الدستوري ومعارضيهما.

وقد رفض أصحاب هذه الدعوات دستور سعيّد شكلاً ومضموناً، لما حمله من أخطاء لغوية وصيغ ركيكة وسلطات مطلقة لرئيس الجمهورية وغياب للتوازن بين السلطات واستحضار صراعات "هوياتية"، حسمها الآباء المؤسسون للجمهورية التونسية منذ دولة الاستقلال (1956). ويعلن هؤلاء، في الفضاء العام ووسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي، رفضهم مشروع سعيّد الذي جاء تكريساً واضحاً لمساره السياسي الذي أخفاه إبّان حملته الانتخابية في عام 2019، ثم أعلنه فجأة منذ انقلابه يوم 25 يوليو/ تموز 2021، والقائم على إعادة تشكيل مؤسسات الدولة وإرساء ما يعرف بالنظام القاعدي، في الوقت الذي يعاني فيه التونسيون صعوباتٍ معقّدة في معيشتهم اليومية، علاوة على أن البلاد، وهي تمرّ بحالة من عدم الاستقرار، لا تحتاج إلى أكثر من الإصلاح الاقتصادي، وتركيز دولة القانون والمؤسسات وإصلاح النظام السياسي، بما يمكن من عودة الديمقراطية ومؤسساتها رغم عثراتها الانتقالية، وذلك بعيداً عن الذهاب في مدارات التيه الشعبوي والسوريالي والتجريبي الذي أوصل التونسيين إلى حافّة الهاوية، إن لم نقل إلى عمقها.

سيمرّر قيس سعيّد دستوره بالقوة، وسيمضي في تأسيس مشروعه السياسي الغامض، ولا عزاء لمن صحا متأخراً

وأمام هذا المشهد المرتبك، والمتسم بهاجس الخوف من مقاطعة الاستفتاء أو التصويت بـ "لا"، في غياب سيناريو واضح لما يمكن أن يحدُث في صورة إسقاط الاستفتاء ودخول البلاد في المجهول. أمام هذا كله، نشر سعيّد بياناً انتخابياً عبر رسالة توجّه بها إلى التونسيين، نشرها موقع الرئاسة 5 يوليو/ تموز الجاري، دعا فيها كل التونسيين إلى التصويت بـ "نعم" على مشروع دستوره، في الاستفتاء. وقال سعيّد: "قولوا نعم، حتى لا يصيب الدولة هرم، وحتى تتحقق أهداف الثورة، فلا بؤس ولا إرهاب ولا تجويع ولا ألم"، مستعيداً مكونات سردية خطاباته وعباراتها التي ما فتئ يردّدها منذ تاريخ الانقلاب، باسم الشعب يريد، وهو صاحب السيادة الذي طالب بدستور جديد سيعرض عليه للتصويت، وقد حملت هذه الرسالة دفاعه عن مشروعه نتاجاً للثورة، وقد جاء عبر مصار تصحيحي، مستجيباً لمطالب الشعب. والواضح أن هذه الرسالة تضمّنت ردوداً صريحة ومباشرة على انتقادات رئيس الهيئة التي كلفها سعيّد صياغة مشروع الدستور، وكل مساندي هذه الهيئة، من أحزاب المجتمع المدني وشخصياته ومؤسساته، وفاعلين في الشأن العام، وصفهم سعيّد في رسالته بـ "المفترين والعاجزين" عن استيعاب روح دستوره، نافياً أن يكون مشروعه ترسيخاً لبنائه القاعدي ونظامه السياسي الذي أسّس له عبر مسار الاستفتاء بمراسيم القوانين منذ تاريخ الانقلاب.

ويجمع مختصون في القانون الدستوري على أن رسالة سعيّد (أو بيانه الانتخابي) قد كشفت، بشكل أساسي، أنه بدا أشدّ حرصاً على الدفاع عن بنائه السياسي منه عن بنائه الدستوري العام، وإن أعلن ظاهر نص الرسالة عكس ذلك. وتأسيساً على هذا، وما سبق، يمكن الجزم بأن المسار الذي انطلق فيه سعيّد ورسمه منفرداً ووضع شخصياً كل سيناريوهاته هو المسار الذي يمضي فيه الآن، رافضاً إمكانية تعديل مشروع دستوره أو تأخير تاريخ الاستفتاء. ولذلك وُصفت الرسالة بالخطيرة جداً، وقدّمت رئيس الجمهورية في صورة "سلطان" أو "أمير" يطلب البيعة من رعاياه عبر تدابير استثنائية، وفي خرق واضح للقانون الانتخابي والنظام الدستوري و"النصوص المرسوميّة" في استغلال لصفته كرئيس للجمهورية توظيفاً لمقدرات وإمكانات الدولة للمشاركة في الحملة الاستفتائية على غير الصيغ التي ضبطتها الهيئة غير المستقلة للانتخابات التي عيّن أعضاءها سعيّد، ومن خارج الأحزاب والأشخاص والهيئات الذين سجلوا لدى هذه الهيئة للمشاركة في الحملة الانتخابية.

ختاماً، يمكن القول إن ما عرف عن سعيّد من شخصية ميكافيلية صعبة المراس، ومنغلقة على ذاتها، ولا تستمع إلا لهواجسها، يجعلنا نجزم بأن سعيّد سيمضي في مشروعه بتقديم دستوره لاستفتاء يوم 25 يوليو/ تموز الجاري، وسينتظم هذا الاستفتاء بمن حضر، على غرار السيناريو الذي جرت فيه الاستشارة الوطنية الشعبية، وقال عنها سعيّد إنها ناجحة، رغم أن نسبة المشاركة فيها لم تتجاوز 5% من مجموع الشعب التونسي. سيمرّر قيس سعيّد دستوره بالقوة، وسيمضي في تأسيس مشروعه السياسي الغامض، ولا عزاء لمن صحا متأخراً.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي