عن مشاريع بَيْنية أفريقية واعدة

03 يونيو 2023
+ الخط -

تعدّ أفريقيا قارّة واعدة لما تمتلكه من موارد بشرية وثروات طبيعية هائلة، ولموقعها الاستراتيجي المميّز. فهي ثاني أكبر قارّات العالم من حيث المساحة وعدد السكان، بعد آسيا. مساحتها 30.2 مليون كيلومتر مربع (11.7 مليون ميل مربع)، وهي تغطي 6% من إجمالي مساحة سطح الأرض، وتشغل 20.4% من إجمالي مساحة اليابسة. ويبلغ عدد سكان أفريقيا حوالي 1.2 مليار نسمة (وفقًا لتقديرات 2016)، ويعيشون في 61 إقليمًا، ونسبتهم حوالي 14.8% من سكان العالم. وتتميّز بانفتاحها على قارّات مجاورة، وهي نقطة التقاء حضاري، ومجال تبادل تجاري، وفضاء تثاقف حيوي بين أمم وأعراق، وديانات وثقافات شتّى.

وتكتسب أفريقيا أهمّيتها الاستراتيجية، والجيوسياسية البالغة من ثقلها السكاني وثرائها الطبيعي لما تحتويه من ثرواتٍ معدنيةٍ، عالية الجودة كالذهب، والنحاس، واليورانيوم، والغاز، ولما تمتلكه من احتياطاتٍ نفطيةٍ هائلة، فنيجيريا مثلا تحتلّ المرتبة العاشرة في التصنيف العالمي للدول المنتجة للنفط، إذ يُقدّر إنتاجها بحوالي 1.2 مليون برميل يوميّا. وتحتلّ الجزائر المرتبة الـ15 بمخزون احتياطي، يُقدّر بـ12 مليار ومئتي مليون برميل بحسب آخر الإحصائيات. وجعل ذلك العمق الاستراتيجي والطبيعي أفريقيا بؤرة اهتمام عالمي، ومدار تنافس دولي بين قوى كبرى، مثل الصين، وفرنسا، والولايات المتحدة، وروسيا. ورغم ما تتوفّر عليه القارّة من ثرواتٍ ضخمة، ما زالت تعاني الفقر، والبطالة، والتخلّف وبطء وتيرة التنمية، ومحدودية خدمات القُرب، وقلّة فرص الاستثمار المحلّي والخارجي.

لكن ذلك لا يمنع من أنّ بعض صنّاع القرار وممثّلي الشعوب الأفريقية ما انفكّوا يبذلون الجهد لتحقيق نهضةٍ أفريقية شاملة، وبلورة مشاريع بينية ناجعة وواعدة لتوفير أساسيات العيش الكريم للمواطنين الأفارقة، وتوطينهم في قارّتهم، وتمكينهم من تحويل مواردهم البشرية وثرواتهم الطبيعية إلى فوائد وعوائد خادمة للصالح العام الأفريقي، وتركيز دعائم اقتصاد مرقمن أخضر، يستجيب للمواصفات الأيكولوجية، ومستجدّات الأسواق الدولية في زمن معوْلم.

يروم قادة أفريقيا مدّ شبكة قطار مدمجة عالية السرعة، ويهدف المشروع إلى ربط جميع العواصم والمراكز التجارية الأفريقية من خلال التشبيك السريع عبر السكك الحديدية

وفي هذا السياق، أصدر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي في مايو/ أيار 2013 بمناسبة احتفالهم بالذكرى الخمسين لتأسيس الاتحاد الأفريقي (1963) بيانًا تاريخيًا، عبّروا فيه عن التزامهم بتسريع وتيرة التنمية الشاملة والتقدّم التكنولوجي في القارّة، وضمّنوه أجندة 2063، وهي وثيقة عمل استراتيجية مستقبلية شاملة وخطّة طموحة لتغيير أفريقيا نحو الأفضل على مدى الخمسين سنة المقبلة (2063 - 2013). وأشرفت على صياغتها وتطويرها مفوّضية الاتحاد الأفريقي من خلال سلسلة من المشاورات مع مكوّنات الاتحاد الأفريقي، ومنظمات المجتمع المدني والمؤسّسات الإقليمية والأفريقية الفاعلة، وهي استراتيجية لتحسين استخدام موارد أفريقيا لصالح جميع الأفارقة. والأجندة معنيّة بتحقيق جملة من البرامج والمبادرات والمشاريع الرئيسية الواعدة التي اعتبرها القادة الأفارقة ضرورية لتسريع وتيرة النهوض الاقتصادي والتنمية الشاملة في القارّة، وإيجاد فرص استثمار في مجالات حيوية، مثل الأعمال التجارية والزراعية، وتطوير البُنى التحتية، والثقافية، والتربوية، وإيجاد مسالك جديدة لترويج السلع الأفريقية، ومواكبة التحوّلات الكونية، مثل انتشار العولمة وثورة التقانة الرقمية قصد ضمان انخراط أفريقيا بشكل فاعل في مجتمع شبكي، دولي، متنافذ ومعوْلم.

على الصعيد الاقتصادي/ التجاري، يعدّ إنشاء منطقة التجارة الحرّة القارّية الأفريقية أحد أهم مشروعات "أجندة 2063"، فهي تتيح للقارّة استغلال مواردها التجارية، والطبيعية، وتوجيهها إلى الفضاء الاستهلاكي الداخلي، وتهدف إلى إزالة التعريفة الجمركية على أغلب السلع بين بلدان الاتحاد الأفريقي، لتعزيز التجارة البينية الإقليمية وتنويع مسالك التصدير والتوريد، فهي فرصة لتعزيز الترابط الإقليمي، وتطوير القدرات الإنتاجية الوطنية، والاستفادة من النفاذ إلى السوق القارّية والإقليمية. ويُفترض في حال عملت السوق المشتركة بكامل طاقتها عام 2030 أن تصبح أكبر منطقة تجارة حرّة في العالم من حيث المساحة، ويقدّر حجم السوق المستهدفة بـ 1.5 مليار نسمة. ودخلت منطقة التجارة الحرّة القارّية الأفريقية حيز التنفيذ قانونيًا عام 2019. ومن المتوقّع أن تؤدّي إلى ارتفاع حجم التجارة في القارّة بنحو 25% على المدى المتوسط، و52.3% على المدى البعيد. وستمكن الأقطار الأفريقية من استخراج المواد الخام وتكريرها في أفريقيا بدلًا من توريدها من الخارج، على نحوٍ يخفّض تكلفة الإنتاج.

وفي إطار إزالة القيود المفروضة على قدرة الأفارقة على السفر والعمل والعيش في قارّتهم، تسعى أجندة 2063 إلى إصدار "جواز السفر الأفريقي". وتهدف المبادرة إلى تغيير القوانين الأفريقية التي تظلّ بشكل عام مقيّدة لحركة الأفراد، على الرغم من الالتزامات السياسية الواعدة بإزالة الحدود. والمراد تسهيل إصدار التأشيرات أو التخفيف منها بين الدول الأعضاء من أجل تعزيز حرية التنقّل لجميع المواطنين الأفارقة في كل دول القارّة.

من واجب الأفارقة ألّا يتجاهلوا الواقع، وأن يبذلوا الجهد لإسكات البنادق، وأن يقاوموا الفقر، والجوع والوباء، ويكافحوا الفساد

في مستوى البنية التحتية، يروم قادة أفريقيا مدّ شبكة قطار مدمجة عالية السرعة، ويهدف المشروع إلى ربط جميع العواصم والمراكز التجارية الأفريقية من خلال التشبيك السريع عبر السكك الحديدية، على نحو يضمن تسهيل حركة البضائع، والأفراد والجماعات. والغاية تخفيف درجة الاكتظاظ في شبكات النقل الحالية والمستقبلية، وتوسيع دائرة التبادل البيْني الأفريقي الشامل. ويُتوقّع أيضًا تنفيذ المراحل المقبلة من مشروع سد "إنجا الكبير" في القسم الغربي من جمهورية الكونغو، عند أضخم الشلالات في العالم، ويستفيد من تدفّق مياه نهر الكونغو الذي تبلغ درجة انحداره 96 مترًا، ويتميّز بمنسوب تدفّق عالٍ، وسيستخدم هذا السد لتوليد الطاقة الكهربائية. وتبلغ تكلفة إنشاء مشروع "إنجا 3" ما يقرب من 14 مليار دولار، ويتضمّن المشروع بناء سد ضخم ومحطّة لتوليد الكهرباء بقدرة إنتاجية 4800 ميغاوات. وتتكلّف مراحل تشييده مائة مليار دولار. ويهدف المشروع الذي تأجّل طويلًا لتوفير 40% من الطاقة الكهربائية لأفريقيا. وتجري حكومة الكونغو مفاوضاتٍ مع البنك الدولي والجهات المانحة لتوفير تمويل للمشروع الذي سيضمن توليد طاقة كهربائية تقدّر بـ40 ألف ميغاوات، أي ما يعادل الطاقة المتولدة عن 20 محطة طاقة نووية كبرى، بحسب أهل الاختصاص. وتبذل الحكومة المصرية جهدها لإشراكها في تنفيذ سد إنجا بالتعاون مع الكونغو. وذلك لتفعيل مشروع الربط الكهربائي مع السد المذكور، بعد فشلها في التوصل إلى حلّ رضائي مع أثيوبيا بشأن سد النهضة.

كما يعتبر الطريق العابر للصحراء الذي يمتدّ على مسافة 4500 كلم منشأة تحتية حيوية تربط بين ستة بلدان من المغرب العربي ومنطقة الساحل الأفريقي (الجزائر، وتونس، ومالي، وتشاد، والنيجر، ونيجيريا). وخصّصت له الجزائر ميزانية تقدّر ب 2.6 مليار دولار. وقد تمّ استكمال حوالي 80%من أشغال إنشائه. وتهدف الجزائر من إنجاز الطريق مع شركائها، وبتمويل من البنك الأفريقي للتنمية، إلى تمتين العلاقات الاقتصادية جنوب/ جنوب وتقليص المسافات بين شعوب هذه البلدان، وفكّ العزلة التي فرضتها الجغرافيا على بعض المحافظات الجزائرية والأفريقية، وتوزيع منتجاتها وتونس على وجه الخصوص داخل العمق الأفريقي، ومضاعفة المبادلات التجارية البين/أفريقية برّاً وتخفيض تكاليف النقل، وفتح آفاق جديدة لكل من تشاد ومالي والنيجر لولوج الموانئ التونسية والجزائرية خصوصاً والمتوسطّية عموماً. ومن المفيد الإشارة إلى أنّه تمت برمجة هذا المشروع، المعروف أيضاً باسم "طريق الوحدة الأفريقية"، منذ عقود، لكن أشغاله شهدت تأخّراً كبيراً بسبب عدم استقرار الأوضاع الأمنية في بعض الدول المشاركة فيه.

في مستوى تطوير البنية الثقافية والتعليمية المشتركة، يعتبر "متحف أفريقيا الكبير" الذي فوّضت قمة الاتحاد الأفريقي (2005) الجزائر لاحتضانه واعداً، في العاصمة الجزائرية، محاذياً البحر، ويمتدّ على مساحة 15 ألف متر مربع. ويتوقّع أن يكون المتحف، بعد استكمال تشييده، رائعةً فنّية تحفظ تراث أفريقيا، وتسجّل أيّامها، وتخبر بتنوّع إبداعاتها الثقافية والحضارية، وبيان انفتاحها على العالم وتأثيرها فيه، لا سيما في مجالات الفنّ والموسيقى واللغات والعلوم.

في إطار إزالة القيود المفروضة على قدرة الأفارقة على السفر والعمل والعيش في قارّتهم، تسعى أجندة 2063 إلى إصدار "جواز السفر الأفريقي".

أمّا بشأن التقانة الرقمية، فيطمح صنّاع القرار في القارّة إلى إحداث شبكةٍ أفريقية للخدمات عبر الإنترنت، وإلى الاستثمار في الذكاء الاصطناعي بغرض مواكبة ثورة المعلومات، وتعزيز الأمن السيبراني، وتحويل أفريقيا إلى مجتمع شبكي مرقمن. وفي السياق نفسه، تتّجه القارّة مستقبلاً إلى تطوير إنتاجها في مجال تكنولوجيا الفضاء وإنترنت الأشياء، وإحداث سوق إقليمي للمنتجات الفضائية في أفريقيا.

والملاحظ أنّ معظم هذه المشاريع البينية الأفريقية الواعدة لم تر النور بعد أو لم تكتمل، ومسار تنفيذها بطيء، لأسباب عدّة، منها سوء الحوكمة، وشيوع البيروقراطية الإدارية، وإهدار المال العام، وكثرة الحروب الأهلية والصراعات البيّنية على السلطة والثروة، وانتشار الأمية والأوبئة في عدد معتبر من البلدان الأفريقية، فضلاً عن محدودية الحرّيات والدمقرطة، وتهميش المرأة والشباب، وهيمنة مؤسّسات وقوى استعمارية تقليدية على القارّة. يضاف إلى ذلك حجم المديونية الهائل الذي تعاني منه أفريقيا، ويقدّر بحوالي 40% من الدخل القومي.

ختامًا، من حقّ الأفارقة أن يحلموا بغدٍ أفضل. لكن من واجبهم ألّا يتجاهلوا الواقع، وأن يبذلوا الجهد لإسكات البنادق، وأن يقاوموا الفقر، والجوع والوباء، ويكافحوا الفساد الإداري والمالي، ويعملوا على تعميم ثقافة الحوكمة والدمقرطة والتداول السلمي على السلطة، وتنويع الشراكات البنّاءة في الداخل والخارج على نحوٍ يساعد في تسريع تنفيذ المشاريع المعلنة، ويضمن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.