عن طبيعة المجتمع المدني ودوره
مع أن فكرة المجتمع المدني وآليات عمله ليست غريبةً عن تراثنا الحضاري، حيث عرفت الحضارة العربية الإسلامية، في مراحلها المبكرة، إرهاصات قيام مجتمع مدني من خلال اختيار "شيخ كار" لكل صنعة، و"شهبندر" للتجار؛ ونشوء نويات منظمات مجتمع مدني بوضع معايير للمهن، ودرجات العاملين فيها، والالتزامات المترتبة على ذلك؛ فيما عُرف بالأصناف والطوائف والنقابات بالمصطلح الحديث، وعمل الأوقاف الإسلامية والمسيحية، لتلبية حاجات المجتمع لرعاية الفقراء والمسنين والمرضى وطلاب العلم ... إلخ. إلا أن الموقف تغير مع الانحطاط السياسي والحضاري الذي عرفته في مراحلها المتأخرة، فتلاشى التطور الاجتماعي وفعالياته تحت ضربات الانقسام والتشرذم الداخلي؛ على خلفية خلافاتٍ عقائديةٍ وأقوامية. وهذا جعل قيام مجتمع مدني حديث في سورية يستدعي البدء من نقطةٍ قريبة من الصفر، بداية صعبة بقدر ما هي ضرورية، فالعقبات كثيرة وكبيرة تبدأ بالبنية الثقافية والاجتماعية السائدة بأولوياتها الكثيفة والثقيلة: الأسرة، العشيرة، القبيلة، والسياسية، طبيعة النظام الحاكم، ولا تنتهي عند الحزب السياسي الذي حوّلته العقلية السائدة والخبرة الضعيفة إلى صيغة جديدة لمجتمع أهلي.
المجتمع المدني فضاء للعمل الاجتماعي المنظم والطوعي؛ له أصناف وبرامج عمل عدة تحدّدها طبيعة كل صنف ووظيفته، حيث هناك صنف للدفاع عن حقوق المواطنين في الحريات الخاصة والعامة، مثل حرية الرأي والتعبير والتنظيم في أحزاب سياسية ونقابات مهنية، جمعيات حقوق الإنسان، وأخرى لتقديم دعم ومساعدات للفئات الضعيفة في المجتمع، جمعيات خيرية لمساعدة الفقراء ورعاية المسنين وذوي الحاجات والمتضرّرين من الكوارث الطبيعية والحروب وحماية المستهلك، وثالثة مهنية للدفاع عن حقوق أصحاب المهن وحماية مصالحهم، نقابات العمال والفلاحين والأطباء والصيادلة والفنانين والرياضيين والأدباء والشعراء والأندية الثقافية والاجتماعية.. إلخ. أما هدف المجتمع المدني من تأطير المواطنين وتنظيم القطاعات المهنية والفئات الاجتماعية فتحويلها إلى قوة فاعلة وجماعة ضغط ببرنامج مطلبي لحماية حقوق المجتمع ومصالحه عبر موازنة قوة السلطة، والحد من تغوّلها، وتقييد جبروتها وهيمنتها وسيطرتها على المجتمع ككل.
المجتمع المدني فضاء للعمل الاجتماعي المنظم والطوعي؛ له أصناف وبرامج عمل عدة تحدّدها طبيعة كل صنف ووظيفته
ومنظمات المجتمع المدني وطنية بطبيعتها؛ فامتدادها أفقي وخدماتها لجميع المواطنين تدافع عن حقوقهم، وتسعى إلى حماية مصالحهم، بغض النظر عن انتمائهم السياسي أو الديني أو الطائفي أو القومي؛ فسمة منظمات المجتمع المدني الرئيسة حياديتها ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع، وعملها لصالح أبناء المجتمع من دون تمييز أو تفضيل. لذا يرتّب نجاحها في عملها نتيجة في غاية الأهمية: تعزيز اللحمة الاجتماعية وتعميق الاندماج الوطني.
لقد احتل المجتمع المدني مكانة هامة في الدولة الحديثة على مستويين: أول يتعلق بدوره في تعزيز الحرية الفردية، الخاصة والعامة، وربط شرعية نظام الحكم ودرجة تمثيله المواطنين بمدى تحقيقه هذه الحريات، وبمدى توفيره فرص اختيار المحكومين للحكام وتداول السلطة، وثان يتعلق بتجسيد الحداثة بوصفها مشروعا مفتوحا للتطور والازدهار البشري والعمراني. وهذا وضعه في قلب الصراع على طبيعة الدولة وعلاقتها بالمجتمع وتعبيراته الاجتماعية والسياسية، حيث سعت نظم شمولية وسلطوية، ردّا على محاولة منظمات المجتمع المدني لعب دور تكاملي ومقاومة التبعية والإلحاق، لاستتباعه وجعله جزءا من أدوات هيمنتها وسيطرتها على المجتمع.
لم ينظر النظام السوري إلى منظمات المجتمع المدني التي بدأت بالظهور مطلع الألفية الثالثة بايجابية، واعتبرها خطرا مباشرا على استقراره وسيطرته وشريكا له في السلطة والسيادة. اعتقلت أجهزة مخابرات النظام عام 2003 مجموعة شبابية في بلدة داريا على خلفية تنظيفها شوارع البلدة؛ وحكمت عليهم محكمة أمن الدولة العليا بالسجن أربع سنوات، بذريعة قيامهم بمهام هي من صلاحيات الحكومة، فحاربها إعلاميا بتشويه الفكرة ومنطلقاتها باتهامها بالتبعية للخارج، وأنها من أدوات هذا الخارج لاختراق المجتمع والدولة؛ قبل أن يلجأ إلى الملاحقة والتهديد والوعيد والضرب المباشر باعتقال المنخرطين في صفوفها، والعمل على الالتفاف عليها، عبر تأسيس منظمات مجتمع مدني موازية، وقوننتها لقطع الطريق على محاولات المنظمات المستقلة الحصول على الترخيص والإشهار والعمل.
المجتمع المدني فضاء للعمل الاجتماعي المنظم والطوعي؛ له أصناف وبرامج عمل تحدّدها طبيعة كل صنف ووظيفته
لم يكن موقف النظام السبب الرئيس في عدم قيام منظمات مجتمع مدني قوية وراسخة في سورية، فقد لعبت أسباب ذاتية دورا معيقا في تشكيلها وفي تعثرها، لعل أول المعوقات، وأكثرها تأثيرا، عدم وضوح فكرة المجتمع المدني في أذهان معظم الذين شاركوا في تشكيل منظمات مجتمع مدني، فقد غاب لديهم التمييز الواضح بين هذه المنظمات والأحزاب السياسية؛ كما غاب تلمّس الحد الدقيق الذي يفصل العمل المدني عن العمل السياسي، وهيمنت على تصوّرهم لطبيعة منظماتهم الوليدة الاعتبارات السياسية ومعارضة النظام. وهذا يتعارض مع فكرة المجتمع المدني الذي ليس من طبيعته أو عمله معارضة النظام، بقدر ما هو في صنفه الحقوقي جهاز رقابة على سلوك النظام وأحزاب المعارضة، يراقبهما ويسجل ملاحظاته على ممارساتهما ويكشف انتهاكاتهما وتجاوزاتهما، وانعكاسات ذلك على حقوق المواطنين ومصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن غلبة النزعة السياسية المعارضة دفعت المنظمات الوليدة إلى تجاهل دورها في مراقبة سلوك أحزاب المعارضة، وانفردت لجان التنسيق المحلية والناشطة الحقوقية المختطفة، رزان زيتونة، في رصد انتهاكات المعارضة، من لحظة انفجار ثورة الحرية والكرامة حتى ساعة اختطافها وتغييبها، وهو في صنفه الخدماتي، الجمعيات الخيرية وجمعيات حماية المستهلكين وجمعية رعاية الأيتام والأرامل والعجزة ومنظمات حماية البيئة ومساعدة المواطنين خلال الكوارث الطبيعية والحروب .. إلخ، يقدم خدماته للجميع من دون اعتبار لأي صفاتٍ أو حيثياتٍ أخرى، مثل العرق أو الدين أو المذهب أو الموقف السياسي، وهو في صنفه التخصّصي، المهني، النقابات والاتحادات، يعطي لكل مهنة أو نشاط ثقافي أو فني نقابة خاصة، تدافع عن مصالح العاملين في هذه المصلحة أو تلك. ليست لمنظمات المجتمع المدني، كالأحزاب، مواقف سياسية أو برامج سياسية، ويغلب على دورها في المجال المهني لعب دور وسيط بين المجتمع والحكومة، لحل مشكلة قطاعات اجتماعية والمطالبة بحقوقها وبمعاملة عادلة ومنصفة لأفرادها ومجموعاتها.
في إطار الخلط بين المجتمع المدني والحزب السياسي، كتب أحد أعمدة جمعية حقوق الإنسان في سورية، وهو قيادي في حزب الشعب الديمقراطي، يدعو إلى تبعية منظمات المجتمع المدني للأحزاب، وهو الخلل نفسه الذي وقعت فيه لجان إحياء المجتمع المدني التي تصرفت كحزب سياسي معارض، وكان هذا واضحا في ورقتها الأساسية: توافقات وطنية، التي انطوت على برنامج سياسي للتغيير الديمقراطي في سورية، في حين كان لاسمها إيحاءٌ بتوجهها إلى العمل والمساعدة في إقامة منظمات مجتمع مدني: نقابات حرّة، أندية ثقافية واجتماعية .. إلخ. وقد تأكد هذا الخلط في اشتراك اللجان في تأسيس إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، وكأنها حزب بين أحزاب، وفي تشكيل المعارضة لجنة تنسيق بين الأحزاب والقوى الوطنية مكونة من أحزاب عربية وكردية ولجان إحياء المجتمع المدني وجمعية حقوق الإنسان في سورية. ليس هذا فقط، بل وانخراط ناشطين في منظمات حقوقية فوق وطنية، كالمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وتشكيل منظمات تحت وطنية كالمنظمة الكردية لحقوق الإنسان في سوريا (ماف). وهذا، بالإضافة إلى أن كل المنظمات التي تشكلت، خلال هذه الفترة، كانت حقوقية، بمعنى قريب من السياسة وعوالمها. ولم تشهد سورية تشكيل منظمات مجتمع مدني خدمية أو مهنية وحرفية أو اجتماعية حرة.
إقامة منظمات مجتمع مدني ناجحة وراسخة تستدعي نشر ثقافة مدنية مدخلاً للعمل على انخراط المواطنين في الشأن العام
واضح أن للالتباس أساسا واقعيا، في ضوء أن معظم الذين شاركوا في تشكيل منظمات مجتمع مدني أتوا من أحزاب سياسية، أو كانت لهم تجربة في حزب سياسي أو يتبنون أهدافا سياسية، يسعون إلى خدمتها، وأن خلفيتهم وخبراتهم محض سياسية وعقائدية، وانعكس هذا على مواقفهم واقتراحاتهم. من ذلك أن رئيس جمعية حقوق الإنسان في سورية حكم عام 2005 في قضية طرحت على الجمعية، فحواها أن محافظة حلب منعت 60 سرفيسا (سيارة أجرة) من العمل على خط داخل المدينة، لأنها شغّلت حافلات نقل داخلي عليه، وهذا أثر على حياة 180 أسرة يعمل معيلوها سائقين. حكم الرجل برفض إصدار بيان يحتج على القرار، بقوله نحن مع القطاع العام؟، فالرجل اشتراكي ومع القطاع العام.
لقد أصبح المجتمع المدني، في سياق التغيير السياسي المطلوب في سورية؛ وفي ضوء الواقع الراهن بتفاصيله السياسية والعسكرية والاجتماعية، ضرورة حاسمة للقيام بمهمة رئيسة: تضميد الجراح واحتواء ردّات الفعل وتلطيف المشاعر والعواطف عبر قيام منظماته بمهامها الوطنية لخدمة السوريين، كل السوريين، وإطلاق حركة تفاعل وطنية من خلال برامج خدمية واجتماعية وثقافية مدنية، فالنجاح في تأسيس منظمات مجتمع مدني، قوية ومستقلة ومحايدة، من مختلف الأصناف، على أسس ومفاهيم صحيحة، مدخل مهم للاندماج الاجتماعي، عبر تنفيذ المهمات الوظيفية للقطاعات المهنية والحرفية والفئات الاجتماعية وفتح مساحات للتفاعل والتعاون والحوار. وهذا لن يكون سهلا أو سلسا في ضوء الجراح العميقة والانقسامات الكبيرة التي ترتبت على نتائج الصراع من قتل وتهجير وتدمير ونهب/ تعفيش، ما يستدعي عملا وجهدا كبيرين وطويلين، لتحقيق العدالة الانتقالية لبلسمة الجراح وتخفيف المواجع. فإقامة منظمات مجتمع مدني ناجحة وراسخة، تستدعي نشر ثقافة مدنية مدخلا للعمل على انخراط المواطنين في الشأن العام، وهو الشرط الأساسي لدولة القانون والعدالة، وفق علماء السياسة، والتأسيس لعادات وأعراف وطنية قائمة على التقدير المشترك للتاريخ والمستقبل الوطني المنشود؛ والفهم المشترك لسيادة القانون والعدالة. وهذا مرتبط مصيريا بوجود قادة رأي وكوادر مدنية تعمل بين الناس، ما يستدعي تشكيل معاهد تعليم وتدريب حول المجتمع المدني، وأساليب عمل منظمات المجتمع المدني والقيم والمفاهيم الحاكمة والناظمة لها.