عن رئيس عربي سابق
يقيم المشير عبد الرحمن سوار الذهب في موقعٍ طيّبٍ في الذاكرة العربية. تمكّن من السلطة في السودان، في انقلابٍ استجاب لاحتجاجاتٍ شعبيةٍ ضد نظام جعفر نميري في 1985. وبعد عام، سلّم الرئاسة إلى قيادة منتخبة. المعهود، في عرضٍ مستمرٍّ على مسرح الحكم في الجمهوريات العربية، أن يصل إلى قصر الرئاسة ضابط بانقلابٍ عسكري، كما سياد بري في الصومال عام 1969، قبل أن يخلعه صراعٌ مسلّح 1990، وكما نميري وحافظ الأسد ومعمّر القذافي ومعاوية ولد الطايع في السودان وسورية وليبيا وموريتانيا، أو بانقلابٍ طبّي كما فعل زين العابدين بن علي في تونس 1987. أو بتدبير دموي، كما رئاسة عبد السلام عارف بعد عبد الكريم قاسم في العراق. أو بإزاحةٍ فظّة، كما فعل بومدين مع بن بلة في الجزائر (1965)، أو إزاحةٍ غير فظّة، كما رتّبها صدّام حسين على أحمد البكر في العراق (1979)، أو باستفتاءٍ محسوم النتيجة لنائب الرئيس (أنور السادات ثم حسني مبارك)، أو بما يشبه انتخاب المرشّح الواحد (جمال عبد الناصر في 1956)، أو بتزكية الرفاق في الحزب القائد (الشاذلي بن جديد في الجزائر، 1978)، أو بالتوريث الذي يستلزم تعديلا دستوريا، ثم استفتاءً من الصنف إياه، كما تنصيب بشار الأسد في سورية قبل 21 عاما. وثمّة توريثٌ كالذي صنعه حسن جوليد أبيتدون في جيبوتي، لمّا غادر الرئاسة، بعد مكوثه فيها 22 عاما، وأقطعها لخليفته، إسماعيل جيلة، والذي يقيم فيها منذ 22 عاما.
التقاليد التي ظلّ مأخوذا بها، غالبا، أن لا يغادر الرئيس العربي قصر الحكم إلا إلى الرفيق الأعلى (بومدين، عبد الناصر، حافظ الأسد، ياسر عرفات، ...) أو بانقلابٍ عليه (نميري، ولد الطايع، ... إلخ)، أو باغتيالاتٍ غامضة (إبراهيم الحمدي وخلفه أحمد الغشمي في اليمن) أو بعد تسويةٍ تعقب احتجاجات، كما إزاحة بن جديد في الجزائر. وباستثناء لبنان، وتونس بعد ثورة 2011، وفي موريتانيا قبل عامين، واظب الرؤساء العرب على أن يبقى الواحدُ منهم رئيسا، بالوسائل أعلاه. وفي الغضون، يسجّل للعقيد الموريتاني الذي صار رئيسا في انقلاب عام 1984، معاوية ولد الطايع، أنه استحدَث في الحالة العربية، عام 1992، الانتخابات الرئاسية التعدّدية، لتصبح هذه البدعة وسيلةً أقلّ جلافةً من البيْعات والاستفتاءات التي تُجدّد الرئاسات، كاللواتي دأب عليهن حافظ الأسد في سورية، وأقلّ مسخرةً، ربما، من تجديد الرفاق في غير بلد رئاسة رفيقهم المهاب. وقد طابت تعدّدية المرشّحين، في انتخاباتٍ رئاسيةٍ تنتهي إلى فوز الرئيس نفسه، للماكثين في الحكم، فأخذ بها بن علي أربع مرّات منذ 1994، ثم عمر البشير مرتين (أو ثلاثا، لا أتذكّر)، واستحسنها ياسر عرفات لمّا نافسته سميحة خليل في انتخابات رئاسة فلسطين في 1996، وزاولها حسني مبارك، فنافسه 12 مرشّحا في 2005. كما راقت للرئيس علي عبدالله صالح، وترشّح غير مرّة، وكانت إحداها "نزولا عند رغبة الشعب اليمني". أما عبد العزيز بوتفليقة فقد احترف هذا المسلك. وقبيل مغادرته الحكم، في حالته الصحية إياها، كان الجزائريون موعودين بـ "عهدةٍ" خامسة له، لولا انتفاضتهم. وهذا جيلة، انقادت له، الأسبوع الماضي في جيبوتي، ولايةٌ رئاسيةٌ خامسة، في انتخاباتٍ تعدّدية. ولم يكن لولايات بعض هؤلاء أن تتجدّد، في مواسمهم الانتخابية تلك، لولا تعديلاتٌ دستوريةٌ جرى تزبيطها. وكان المأمول، أو المشتهى، أن يغادر العرب هذه الفلكلوريات بعد ثورات الربيع العربي، غير أن قيادة الجيش المصري أطاحت الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وجاء الانقلاب بالماريشال عبد الفتاح السيسي رئيسا، في انتخاباتٍ متعدّدة المرشّحين (لا يُنسى موسى مصطفى موسى) في منافساتٍ لولايتين، قبل أن يتعدّل الدستور، ليبقى رئيسا إلى ما شاء من السنوات.
مناسبة الإتيان على الأرشيف أعلاه أن رئيس موريتانيا السابق، الجنرال محمد ولد عبد العزيز، أخذ بالمألوف، لمّا أطاح الرئيس المنتخب، محمد ولد الشيخ عبدالله، في 2008، ثم آثر أن يكون رئيسا منتخبا في منافستين تعدّديتين في ولايتين، في 2009، لمّا استقال رئيس اللجنة العليا للانتخابات ولم يعترف بها، ثم في 2014، في انتخاباتٍ قاطعتها المعارضة. ثم خطر بباله أن لا يكون تقليديا، بل ومغايرا إلى حدٍّ غير مسبوق عربيا، فغادر، ودعم انتخاب رفيقه الرئيس الحالي، محمد ولد الشيخ الغزواني. ليكون هذا طوع البنان، غير أنه لم يفعل، فسيق ولد عبد العزيز إلى المحاكم بتهم ثقيلة، أقلها الفساد وغسل الأموال، ونزعت منه عضويته في حزبٍ أسسه، وتم تجميد ممتلكاته. وهذا هو الأسبوع الماضي، يندسّ في حزبٍ آخر، ويعلن عودته إلى السياسة، معارضا، ورفقاؤه بالأمس يواصلون رمي السهام عليه. .. حالته هذه جديدة تماما، لم نقع على مثلها من قبل، فتستحقّ اكتراثا بها، فالمتوقع أن تتدحرج فصولٌ مثيرةٌ فيها.