عن الملثّمين بالنقد
أتبنّى، وأتمنّى، أن يتحرّك نقد الفكرة إلى جوارها، وألا نعيش يوماً واحداً من دون مراجعة أفكارنا، وإعادة فهمها واختبارها. يوشك النقد أن يكون واجباً مقدساً من شدّة حاجتنا إليه، ولا استثناءات هنا، فيما أظن. المقاومة مثلاً، حقٌّ وواجب، يظلّ الحقّ حقّاً، لكن ممارسته ليست فوق النقد، حرصاً عليه، وعلى استمراره، وعلى نجاحه وفاعليته. وكما أن النقد واجب، فإنه بدوره يحتاج إلى النقد، خصوصاً إذا انحرف عن مساره، وتحوّل من أداة تقويم إلى "حصان طروادة".
كتب أحدهم ينتقد تعليقات فتياتٍ عربياتٍ على خطابات الناطق باسم كتائب عزّ الدين القسام، أبي عبيدة، وحديثهن عنه بوصفه فتى أحلامهن. ترك الشيخ ما يدور حوله من حرب إبادة لأهلنا في قطاع غزّة، وسط صمت حكّام 22 دولة عربية، وتجاوَز ما في خطابات أبي عبيدة من قوّة وقيمة، لا أثر لها في خطابات حكّامنا، وتناول تعليقات الفتيات، بوصفها غزلاً موجّهاً لغريب أو مجهول يجلس على مقهى، وليس رمزاً أكثر منه شخصاً بعينه، وقيمة جهادية ونضالية. وظنّ المسكين أنه بذلك يؤدّي واجبه الشرعي، أو أنه قادر على إقناع أغلب المتابعين بذلك.
هل يبدو الشيخ "مسخَرة" في ذاته وفتواه؟ الإجابة نعم. وما المسخرة سوى كسر المتوقّع، وهو ما لاحظه معلّقون عاديون، لا يحتاجون إلى التخصّص في تحليل الخطاب لكشف الشيخ، ويكفيهم الحد الأدنى من الفهم والإدراك واللياقة. علق أحدهم بأن التعليقات تمتدح ما يمثّله أبو عبيدة، لا هو، وهذا بديهي. وكتب آخر أن الشيخ، مثل غيره من المصابين بداء النرجسية، لا يريد لحدثٍ جللٍ أن يمرّ من دون أن ينشغل الناس به، وأن يمتدحوا غيرته الكاذبة وتديّنه المغشوش. وجزم ثالث بأنه لا ينبغي التعامل مع "حنيكة" الشيخ وأمثاله بحُسن نيّة، فما يقولونه، الآن، ليس خطأ في التقدير، أو خللاً في تنزيل النصوص (على افتراض وجودها) على الوقائع، إنما تشتيت مقصود لغضب الناس، وإجماعهم غير المسبوق على دعم القضية في مواجهة خصومها أو المتخاذلين عنها.
يبدو الشيخ، بالمقارنة بغيره، مكشوفاً. لا يجيد فنون التخفّي خلف حق النقد، والخوف على القضية من أصحابها، وعلى غزّة من حركة حماس التي تشارك في إبادتها، وعلى الفلسطينيين من المشروع الإيراني الذي يستخدمهم، وعلى الماضي الذي لم تستغلّه "حماس" (بوصفها حاكماً طبيعياً ذا سيادة وإمكانات) لبناء ملاجئ لتأمين آلاف الأسر الغزّية من ضربات الصهاينة، وعلى المستقبل من انتصارٍ قد تحقّقه مقاومة إسلامية ثم تحكُم بشرعيّته، فإذا بنا قد وقعنا في الفخّ الذي سيجعلنا نترحّم على نتنياهو الغلبان إلى جوار وحشيّة الإسلاميين وفاشيّتهم.
لا يختلف أصحاب هذه الخطابات عن الشيخ أعلاه في نوع المسخرة، إنما في درجتها، حيث تخفي حرفية المعالجة بعضاً من وقاحتها، عند من يتعمّدونها، تخديماً على مصالح "أصحابهم"، أو خفّتها و"غشوميّتها" عند من أساءوا التقدير حيناً، أو اختيار الوقت المناسب أحياناً. ولا نحتاج هنا إلى الردّ على أحجياتٍ قد لا يخلو بعضها من وجاهة، في ذاته، قدر احتياجنا إلى تنبيه القارئ المحبط من هذا "الخذلان" أن هذه الخطابات لم ولن تصل إلى ملايين المتعاطفين من العرب والمسلمين (والبشر) مع القضية، والمؤمنين بعدالتها، وستظلّ ظواهر صوتية مزعجة، لا تتجاوز "مناكفات" النخب بعضهم بعضاً، حتى هذه الخطابات التي تجاوزت المقال المكتوب إلى "الصراخ" التلفزيوني الشعبوي، الأكثر اقتراباً من لغة سواد الناس، جاءت، من حسن حظّنا وبطبيعة الحال، على لسان من لا يتمتّعون في مجتمعاتهم بالحد الأدنى من المصداقية، ويحملون على ظهورهم تواريخ من شهادات الزور، على الواقع والتاريخ معاً، فارتدّت صرخاتُهم في صدورهم، ولم تتحرّك في سياقات دعم المحتل والمطبّعين معه كما خطّطوا.
ستمرّ هذه الأيام الصعبة، كما مرّ غيرها، ويأتي "وقتٌ مناسب" للحديث عن بطولات المقاومة وأخطائها، على السواء. أما الآن، حيث تقصف صواريخ العدو أهلنا في غزّة، فلا شيء غير الدعم الواجب والمستحقّ.