عن الزلزال والتدميرية البشرية

16 فبراير 2023
+ الخط -

لم يُبيِّن الزلزال الذي ضرب جنوبيّ تركيا وشماليّ سورية أخيراً مدى عظمة الطبيعة وقدرة تكويناتها التدميرية على غلبة الإنسان وبقية الكائنات، بقدر ما بيَّن مدى هشاشة المجتمعات الحضرية التي أقامها البشر، وهشاشة نُظُمهم الاجتماعية التي لم تستطع التكيّف مع هذه الطبيعة، على الرغم من التقدّم العلمي الذي أحرزته. وفضحَ هذا الزلزال والدمار الذي سبّبه، وعدد الضحايا الذي خلّفه، المقدَّر بعشرات الآلاف في البلدين، وهو عددٌ قابل للزيادة، النزعة التدميرية التي لدى الانسان، والتي تفوق أخطار الطبيعة. فالإنسان عارف بتأثير الطبيعة، وبما يمكن أن تقترف يداه إذا تلاعب بمواصفات المنشآت التي يشيدها فوقها وجعلها غير قادرة على الصمود. وهنا تتشابه النزعة التدميرية لدى رجال الحروب مع التي لدى مشيِّدي الحواضر الهشّة بسبب الخراب الذي يخلفونه.

كيف يمكن أن تتحول المنازل التي بُنيت لكي تكون ملجأ الإنسان لحمايته من الأخطار، إلى مجرّد فِخاخ يمكن أن تطبق عليه بينما هو نائم، إذا ما حدث خللٌ في الطبيعة؟ فجأة، بعد زلزال تركيا وسورية الذي حدث فجر يوم الاثنين، في 6 فبراير/ شباط الجاري، باتت المنازل غير آمنة بنظر من تأثر بالزلزال أو شعر به. وفي ظرفٍ كهذا، تصبح الحياة عبثية، لأن المسكن بالنسبة إلى كثيرين هو شرط هذه الحياة. وإذ كان الدافع وراء حيازة الناس المنازل هو الحماية، بدا بعد الزلزال أن دافع بناء المنازل لدى بعض تجّار البناء والمقاولين هو التدمير، فهل يتلذّذ هؤلاء بموت الناس تحت أنقاض الأبنية كما يتلذّذ قادة الحروب بالقتل ومشاهد الدماء؟ اشتهاء السيطرة المطلقة لدى كل من هؤلاء هو الدافع لاقتراف ما يقترفون من قتل الآخرين في الحروب، والشروع بالقتل لدى المقاولين الذين أشادوا أبنية غير صالحة لحماية البشر، وإنجازهم القتل عندما هزّ الزلزال الأرض.

ما زاد من حجم الدمار وعدد الضحايا في سورية، أن أبنية كثيرة كانت قد تأثرت قبل سنوات بالقصف، ما سبّب تصدّعها ثم انهيارها بسبب الزلزال

ولكن أين الخلل في هذا الأمر وفي الواقع الذي حوَّل هؤلاء إلى مشاريع قتلة، ومن ثم إلى قتلة موصوفين؟ أثبتت النظم الاجتماعية والسياسية الحالية أنها غير قادرةٍ على تنشئة أجيال خالية من النزوع إلى الشر، وعاجزة عن التخفيف من الروح التدميرية الموجودة لدى الإنسان الذي يعيش فيها، وهي الروح الكامنة فيه، التي تنتظر ظرفاً مناسباً لكي تظهر. فالتدميرية لدى الإنسان تظهر فقط في ظروفٍ محدّدة توافرت لبعضهم ولم تتوافر لآخرين، لذلك عاشوا بيننا ولم نلاحظهم. وقد جاء الباحث إيريك فروم في كتابه "تشريح التدميرية البشرية"، (دار نينوى، دمشق، 2016)، على هذا الأمر، وكتب ما مفاده بأن هتلر وُجد في زمنٍ محدّد وسط ظروف معينة، وقد أصبحت لديه هذه النزعة التدميرية التي لم تصبح لدى آخرين يمكن أن يصبحوا خطرين حين تحين الفرصة وتتوافر لهم الظروف والإمكانات التي توافرت لهتلر. واكتُشف أن هتلر كان كارهاً للألمان وللبشر وللحياة، وليس كارهاً لفئة محدّدة من المجتمع فحسب. وعلى هذا الأساس، شنّ حروبه التدميرية التي أحالت أوروبا خراباً خلال الحرب العالمية الثانية. ولا يختلف من أشاد الأبنية القابلة للسقوط، في الكراهية التي يحملها، عن هتلر الكاره الجميع، إذ سمحت الظروف، وواقع الفساد في قطاع البناء، في أن يتحوّل هؤلاء إلى هتالرة، أبرَز الزلزال حجم الدمار الذي خلفه فسادهم، والذي يضاهي بحجمه وعدد ضحاياه، الدمار الذي تخلفه الحروب.

وجود بذرة لإرادة الحياة يمكن أن تخفّف ما يسببه أصحاب النزعة التدميرية

يتفاجأ المرء حين يعرف أن التقيد بنظم البناء والقواعد الهندسية الخاصة بإشادة أبنية مقاومة للزلازل لا يزيد من تكلفة البناء سوى 20%، غير أن كثيرين من تجّار البناء يفضلون ألا ينفقوا هذه النسبة، خوفاً من انخفاض نسب الربح التي يحقّقونها. وأرجع كثيرون سبب الدمار الهائل إلى عدم التقيد بتلك النظم والقواعد في تركيا وسورية. ولهذا السبب تحدث نائب الرئيس التركي، فؤاد أوقطاي، عن اعتقال 131 شخصاً للتحقيق معهم بسبب الاشتباه في مسؤوليتهم عن إشادة أبنية غير مقاومة للزلازل، ما أدّى إلى انهيارها. كذلك أُعلِنَت خطّة لتأسيس مكاتب للتحقيق في جرائم الزلزال لتحديد المسؤولين عن الأمر. وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الأبنية التي انهارت بفعل الزلزال في المحافظات السورية التي تأثرت به، إلا أن ما زاد من حجم الدمار وعدد الضحايا في سورية، أن أبنية كثيرة كانت قد تأثرت قبل سنوات بالقصف الذي طاول مدن حلب وإدلب وحماة، ما سبّب تصدّعها ثم انهيارها بسبب الزلزال.

في ظل قتامة هذا المشهد، يبرُز مشهد الاستجابة الشعبية السريعة والكبيرة، التي بدأت منذ الساعات الأولى التي تلت الزلزال، بعدما وقف كثيرون على التداعيات وعلى الاحتياجات الضرورية لدى من باتوا في العراء ليلة الزلزال الباردة والماطرة. وبرز في سورية مشهد العائلات المعوزة التي لم تبخل بإيصال ما بقي لديها من مؤن شحيحة ومن ألبسة وأغطية وأدوية لإيصالها إلى المتضرّرين. كذلك برزت الاستجابة الدولية الكبيرة في تركيا، التي أظهرت تجاوز دول كثيرة خلافاتها مع الحكومة التركية وإرسال طواقم إنقاذ ومساعدات لأنقرة. وإذ يبرز هذا السلوك الفطري للناس، فهو يأتي في وقته ليطغى على مشهد حالات سرقة المساعدات الذي ظهر في أماكن كثيرة في البلدين، وكذلك ليؤكّد استمرار وجود بذرة لإرادة الحياة يمكن أن تخفّف ما يسببه أصحاب النزعة التدميرية التي لم تستطع المجتمعات الإنسانية تحييدهم.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.