عن الحالة الاستثنائية في تونس
تتأسّس الحالة الاستثنائية في إدارة شؤون الدولة، في الاصطلاح الدستوري، على تعلّل رئيس الجمهورية بوجود ظروفٍ استثنائيةٍ مأساوية ومخاطر داهمة حقيقية، من قبيل كارثة طبيعية أو حرب أو تمرّد أو أعمال إرهابية أو وباء أو محاولة انفصال، يقتضي التعامل معها تعليقا مؤقتا لتطبيق بعض القواعد التي تحكم عادة الاجتماع المدني، وتنظيم السلطات العمومية وعملها، واتخاذ تدابير ظرفية أخرى، بغاية التصدّي للخطر الداهم أو التوقّي منه. ويفترض أن يُقدم الرئيس على إعمال تلك التدابير، بالتشاور مع السلطات المدنية المجاورة (البرلمان، الحكومة، القضاء)، وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية والعسكرية. والمعروف أنّ الحالة الاستثنائية ليست وضعا مستداما، وإلا لما كانت استثنائية، ذلك أنّها حالة وقتية، استباقية، عابرة. الغاية منها طمأنة الناس وضمان سلامتهم والمحافظة على سيادة الدولة والوحدة الترابية للبلد، والعودة في النهاية إلى الوضع الطبيعي، العادي في إدارة الشأن العام.
وفي تونس منذ أعلن الرئيس، قيس سعيّد، اعتماد تدابير استثنائية ظرفية لإدارة البلاد بموجب الفصل 80 من دستور 2014، تباينت المواقف بخصوص ما أقدم عليه الرجل، ففريق انتصر لقرارات الرئيس على جهة الإطلاق، وعدّها مطابقة للدستور. واعتبر ما حصل يوم 25 يوليو/ تموز 2021 ثورة شعبية، ودفع نحو إقامة جمهورية ثالثة أو جماهيرية جديدة، تنبني على تأبيد التدابير الاستثنائية وتوسيعها (مدّدها الرئيس مساء أول من أمس الاثنين إلى أجل غير مسمّى)، وعلى مركزة كلّ السلطات بيد الرئيس، والقطع مع مخرجات ثورة 2011 (الديمقراطية التمثيلية، التوازن بين السلطات الثلاث، التداول على الحكم...). وعندهم أنّ هذه التوجّهات الاستثنائية/ الأحادية ستؤدّي إلى تحسين الوضع المعيشي، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي. فيما يرى الفريق المقابل أن التدابير الاستثنائية المعلنة شرّ محض، وديكتاتورية صريحة، غير مؤدّيةٍ إلى إحداث تغييرات نوعية في المشهد العمراني والسياسي بتونس. وفي الموقفين مبالغة تحتاج إلى التنسيب والمراجعة.
من المفيد الإشارة أوّلا إلى أنّ ما حدث في ذلك اليوم لم يكن ثورة شعبية ولا انتفاضة عارمة. بل كان يوما احتجاجيا، مطلبيا، تخلّلته بعض مظاهر العنف، ولم يكن حراكا جماهيريا واسعا استقطب كلّ التونسيين أو جلّهم. بل تعلّق الأمر باحتجاجاتٍ محدودة في الزمان والمكان ضدّ الأداء البرلماني والحكومي في التعاطي مع الأزمة الاقتصادية والصحية التي تشهدها البلاد. ولم يكن الفعل الاحتجاجي، كمّا وكيْفا، شبيها بثورة 14 يناير (2011)، ولا باعتصام الرحيل في 2013، فأعداد المتظاهرين، بحسب شهود عِيان وجهات رقابية موثوقة، لم تتجاوز المئات، وكان الاحتجاج أساسا بمركز المدينة في محافظات معدودة (تونس، سوسة، القيروان، صفاقس). ومن ثمّة، فالقوْل إنّ الشعب قد قال كلمته من خلال الاحتجاجات المذكورة، وإنّ المتظاهرين يمثّلون عموم الشارع التونسي، فيه كثيرٌ من المبالغة والتزيّد الذي يروم تزييف الوعي، والتعتيم على الحقائق ومجافاة الواقع. ومعلومٌ أنّ التعبير عن الإرادة الشعبية في المجتمعات الديمقراطية يتمّ عبر الانتخابات، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع، لا عبر التحشيد والتحشيد المضاد في الشارع، خصوصا أنّ أطرافا أخرى بإمكانها أيضا تحريك الشارع وبشكل أكثر كثافة (حركة النهضة، اتحاد الشغل، الحزب الدستوري، حزب العمّال...). وبناء عليه، ليس في مقدور أيّ طرفٍ حاليا أن يدّعي امتلاك الشارع أو الوصاية على الشعب. والثابت أن بعض وسائل الإعلام العربية، المعروفة بمناوأتها الحالة الديمقراطية في تونس، ساهمت في تضخيم الحدث الاحتجاجي المذكور سلفا، وروّجت معلوماتٍ مغلوطةً بشأنه، نكاية في المنظومة الحاكمة. واكتسبت تلك الاحتجاجات أهمّيتها باستجابة الرئيس قيس سعيّد لبعض مطالب المحتجّين، واتخاذه تدابير استثنائية في هذا الخصوص. من ذلك إقدامه على تجميد البرلمان، وعزل رئيس الحكومة الذي سبق أن عيّنه، وتنصيبه نفسه نائبا عامّا على نحو جعله يجمع السلطات الثلاث في يده (التشريعية، التنفيذية، القضائية). والمؤكّد أن المبادرة الرئاسية لم تأت من فراغ. بل جاءت تتويجا لمسار سياسي مأزوم في تونس بعد انتخابات 2019، جلّاه الصراع المحموم على الصلاحيات بين رئيسي الحكومة والجمهورية، وأعمال الشغب، والهرج والمرج، والتعطيل تحت قبّة البرلمان، فضلا عن تفشّي مظاهر الفساد المالي والإداري، وفشل حكومة هشام المشيشي في معالجة معضلة انتشار فيروس كوفيد 19، وعجزها عن إخراج البلاد من ضائقتها الاقتصادية، فهذه المعطيات الواقعية عجّلت بإقرار التدابير الاستثنائية.
أغلب الناس يعتريهم شعور باللايقين، لعدم وضوح الرؤية لكيفيّة إدارة البلاد في المستقبل
أمّا في خصوص دستورية تلك القرارات، فإنّ الفصل 80 من الدستور التونسي يمنح رئيس الجمهورية سلطة إعلان الوضع الاستثنائي، وتقدير الخطر الداهم الموجب له، وهو في قضيّة الحال، انتشار الوباء، واحتدام الصراع على السلطة. لكن لا يمنحه حقّ تجميد البرلمان ولا حلّه، باعتبار هذا البرلمان هيئة تمثيلية، مستقلّة، منتخبة. بل المطلوب دستوريا أن يظلّ المجلس النيابي في حالة انعقاد دائم زمن الحكم الاستثنائي. ولا يُبيح الفصل المذكور لرئيس الدولة إقالة رئيس الحكومة، لأنّ ذلك من اختصاص البرلمان، بل يمنع توجيه لائحة لوم للحكومة مدّة الحالة الاستثنائية. كما لا يعطي رئيس الجمهورية صلاحية إدارة النيابة العامّة. بل يؤكّد حتمية مراجعة المحكمة الدستورية لإعلان الوضع الاستثنائي من عدمه. كما أنّ تقييد بعض الحرّيات بشكل ظرفي (المنع من السفر، منع تنظيم المؤتمرات، فرض الإقامة الجبرية...) وغلق مكاتب بعض الهيئات أو المؤسّسات، يفترض أن يكون معلّلا قانونيا، وبموجب إذن قضائي. وبناء عليه، يرى مختصّون في القانون الدستوري أنّ رئيس الجمهورية انطلق من منطوق الفصل 80 لينزاح عنه، ويحمّله ما لم يحتمل، وعدّ بعضهم ذلك تجاوزا لنصّ الدستور، ورآه غيرهم تعسّفا في استخدام السلطة، واعتبره آخرون انقلابا على دستور الجمهورية الثانية.
استبشر طيْف من التونسيين بالتدابير الرئاسية الاستثنائية، لأنّهم يعتقدون أنّها فرصة لاستعادة هيبة الدولة وفرْض سلطة القانون، ولأنّهم سئموا حالة التنابذ بين الأحزاب، والصراع على السلطة بين أطراف منظومة الحكم، ويظنون أنّ إمساك الرئيس بزمام إدارة البلاد سيكون الحلّ السحري الذي يضمن لهم الاستقرار والرفاه، ويقضي على البطالة، والفساد، والفقر، وعلى الاحتكار وغلاء الأسعار، ويحسّن الوضع المعيشي للناس. ومع أنّ قيس سعيّد دعا رجال الأعمال الذين تحوم حولهم شبهات فساد إلى إبرام صُلْح جزائي مع الدولة، يلتزمون بمقتضاه ببعث مشاريع في مناطق الظل، وطلب من ممثلي الصيادلة والتجار التخفيض في ثمن الدواء والغذاء، فإنّ الاستجابة لتلك التوجيهات ظلّت محدودة. والمشهود أنّ أسعار مواد استهلاكية كثيرة ارتفعت بشكل جنوني خلال فترة التدابير الاستثنائية (الخُضار، الغلال، اللحوم، الأسماك، لوازم البناء...). كما أنّ رجال أعمال عمدوا إلى سحب أموالهم وإيداعها في بنوك خارج البلاد. ذلك أنّ حالة الاستثناء عزّزت عند بعض التونسيين هواجس الجمْع والمنْع، وأثارت عند آخرين المخاوف من المحاسبة. وزاد ذلك كلّه من متاعب الطبقة الوسْطي ومحدودي الدخل، واستنزف مقدرتهم الشرائية. كما تفيد تقارير متواترة بأنّ وكالات التصنيف الائتماني تتّجه إلى تخفيض الترقيم السيادي لتونس، بسبب عدم الاستقرار السياسي وعدم وضوح الرؤية للمستقبل. وتواجه البلاد صعوباتٍ في الحصول على قروض إضافية من الجهات المانحة للأسباب نفسها.
التعبير عن الإرادة الشعبية في المجتمعات الديمقراطية يتمّ عبر الانتخابات، والاحتكام إلى صندوق الاقتراع
أمّا المعترضون على التدابير الاستثنائية، فيحتجّون بأنّها بوّابة للديكتاتورية، وتمهيدٌ لقيام حكم سلطوي، مطلق. ويستدلّون على ذلك بقيامها على مركزة الحكم بيد رئيس الجمهورية، وعلى تقييد الحرّيات، وبأنّها فتحت الباب لعودة "دولة التعليمات"، والمداهمات، ولن تؤدّي إلى إحداث تغييراتٍ إصلاحيةٍ جذرية. ويجد هذا الرأي له شواهد من قبيل التضييق على بعض الإعلاميين، واعتقال بعض المدوّنين، وغلق مكتب قناة الجزيرة، ومداهمة مقرّ هيئة مكافحة الفساد، ومنع مواطنين من السفر، وفرض الإقامة الجبْرية على بعض المسؤولين من دون تعليل قانوني، أو إذن قضائي، خلال المرحلة الاستثنائية. وقد دانت تلك التدابير أحزاب، ومنظمات حقوقية ونقابية عديدة. والقول إنّ وضع الاستثناء لم يُحدث أثرا تغييريّا حكم نسبيّ. فمن الناحية السياسية، أعادت التدابير الاستثنائية لمؤسّسة رئاسة الجمهورية اعتبارها، ومكّنت رئيس الجمهورية من ربْح معركة الصلاحيات، وبيّنت أنه عنصر فاعل في إدارة مسألة الحكم. كما دفعت أحزابا إلى مراجعة سياساتها وممارسة النقد الذاتي، فيما تواترت الاستقالات في أحزاب أخرى. ومن الناحية الاقتصادية، استأنف قطاع الفوسفات إنتاجه، بعد أن تمّ تعطيله طويلا. أمّا على الصعيد القضائي، فتمّ تحريك بعض ملفّات الفساد، وإحالة المشتبه بهم على القضاء. وتلك رسائل وجدت صدىً إيجابيا عند جلّ المواطنين. لكن ذلك لا يمنع من أنّ أغلب النّاس يعتريهم شعور باللايقين، لعدم وضوح الرؤية لكيفيّة إدارة البلاد في المستقبل، ولخوف كثيرين من عودة الدولة الأحادية/ القامعة.
ختاما، لقد استثمر العالم الحر (خصوصا الاتحاد الأوروبّي والولايات المتحدة الأميركية) في الديمقراطية التونسية، وقدّم مساعداتٍ مادّية ولوجيستية مهمّة لمأسسة الحالة الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان في البلاد. لذلك لم تجد الحالة الاستثنائية تأييدا صريحا من الدول التقدّمية، وقد يؤدّي التمادي في اعتمادها ومحاولة بلورة ملامح نظام شمولي إلى عزلة تونس. لذلك من المهمّ غلق قوس الحكم الاستثنائي بعد تلاشي أسبابه (الوباء، النزاع على الصلاحيات)، واستئناف المسار الديمقراطي/ الدستوري خدمة للصّالح العام.