عمر الخيّام في "تايتنيك"
ليس العنوان أعلاه عن الفيلم الشهير الذي جاوزت إيراداتُه مليارين و18 مليون دولار، وإنما عن السفينة الباذخة تايتنيك التي أبحرت في المحيط الأطلسي من لندن إلى نيويورك، ثم اصطدمت بعد أربعة أيامٍ بجبلٍ جليديٍّ، فغرقت، وكان فيها 2223 راكبا، نجا نحو سبعمائة منهم. استذكَرَت صحافاتٌ عالميةٌ وعربيةٌ أخيرا ذلك الحدث الذي زاده شهرةً الفيلم الذي أحرز 11 جائزة أوسكار، بمناسبة اكتمال مائة وعشر سنوات عليه في 14 إبريل/ نيسان الجاري. أيضا، ليس العنوان عن الشاعر والفيلسوف وعالم الفلك والرياضيات الفارسي، المعروف باسم عمر الخيّام (توفي في العام 1131 عن 83 عاما)، ولا عن قصيدته الخالدة "الرباعيات"، والتي أضيفت إليها، بعد وفاته، أبياتٌ شعريةٌ ليست له، وتعدّدت ترجماتُها في العالم (نحو 50 ترجمة إلى العربية). .. إنما العنوان عن نسخةٍ من كتاب الرباعيات، بالإنجليزية، بالغةِ الفخامة، مجلّدةٍ، مرصّعةٍ بأكثر من ألف جوهرة (منها ياقوت وزمرّد). وعلى ما أفاد تقرير في "بي بي سي"، فإن نحو خمسة آلاف قطعةٍ من الجلد، وتسعة أمتارٍ من أوراقٍ مذهّبة، استُخدمت في إنتاج النسخة المذهلة، المزيّن غلافُها برسم ثلاثة طواويس، وانكتب إنها أعظم مخطوطٍ مرصّعٍ بالمجوهرات في تاريخ البشرية. أرسلها مصمّمها، فرانسيس سانغورسكي، إلى مشتريها في مزادٍ في لندن، الأميركي غابرييل ويلز في نيويورك، على متن السفينة "غير القابلة للغرق"، بحسب أحد أوصاف "تايتنيك"، ثم جرى ما جرى. وتاليا، لم يكن المخطوط الفريد من بين مقتنياتٍ وحاجياتٍ وقطعٍ غير قليلةٍ أمكن انتشالُها من حطام السفينة، في حملات بحثٍ عن بقاياها. وعُرض كثيرٌ مما وجدوه في معرضٍ في لندن في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وبقيت "رباعيات الخيّام" في موضعٍ ما في قعر المحيط الأطلسي. ورائقٌ ممن كَتب أن أملا يبقى قائما في احتمال أن النسخة المترفَة ربما نجت من التلف أو التآكل، بفعل "مصنوعيّة" الجلد الفخيم الفاخر الذي يغلّفها. ورائقةٌ دعوةٌ إلى التفتيش عنها، و"إنقاذها" بعد أزيد من قرنٍ على الواقعة التي أغوت الكندي جيمس كاميرون، فكتب الفيلم التحفة، وأخرجه وأنتجه في 1997 بتكلفة مائتي مليون دولار.
كأنها إذن حدّوتةٌ موازيةٌ، تصلُح لأن تُغوي قرائح صنّاع سينما بديعة، وشعراء قصائد رائقة، وكتّاب رواياتٍ رهيفة، فتستنفر مخيّلاتهم إقامة عمر الخيّام في قاع المحيط، برباعيّاته الباقية أبدا في مطرحٍ عالٍ في ذاكرة الإنسانية.. أيُّ رسائل ينبضُ بها من جوف الماء الشعر المخطوط، والمحفوظ بين دفّتي مجلدٍ باهر، والمرفق بياقوت وزمرّد؟. ورباعيات الشاعر الفارسي في جوهرها تجوالٌ في النفس البشرية، في خطى العمر، في طلب النور من الخالق، في الفرح بمتع الدنيا وتطلّب لذّاتها، وفي محبّة الناس قبل فناء النفس، في عشق الجمال، في النجوى مع الله، والتجلّي مع قدرته، في الطمع برحمته، في طلب المغفرة والتوبة، في تأمل تناوب الأسحار والليالي والأوقات.. حلّقت أم كلثوم بألحان رياض السنباطي مع ما أتاه أحمد رامي من شعر يخصّه، وهو يعرّب من عمر الخيّام رباعيّاته، فأضافت إلى الانتشاء بعالي المعاني ورفيع القول نشوةً أكثر وأكثر، بصوتِها الذي تخالُه، وهي تتهادى بأناةٍ ووقار كثيرينْ، نداءً إلى معارج من بهاءٍ وجلال. كان رامي يتمثّل الخيّام ولا يقول قولَه تماما، كان خيّاميا وحسب، بشعرٍ كتبه، لا بشعرٍ نقله عن عمر الخيّام. فعل مترجمون آخرون مثله، منهم من أجاد، ومنهم من أخفق. وآثر غيرُهم نقلَ الرياضي (من الرياضيات) الفارسي المكين، كما هي رباعيّاته نفسها. لا أدري أين بالضبط بين هؤلاء وأولئك البريطاني إدوارد فينزجيرالد، أشهر من نقل الرباعيّات إلى الإنجليزية وأقدرهم، غير أن ما أدريه أنه يقيم مع عمر الخيّام هناك بين المرصّعات في قرار المحيط الأطلسي..
مات غرقا مبدعُ النسخة النائمة في الماء، سانغورسكي (عن 37 عاما)، وهو يحاول إنقاذ رفيقةٍ له من غرق. ولمّا بادر، في الثلاثينيات، مصمّمٌ بريطانيٌّ آخر إلى إنجاز نسخةٍ مخطوطةٍ أخرى، باذخةٍ على ما وُصفت، ومتقنةٍ تجليدا، وتتوزّع فيها جواهر عظيمة، احتُفظ بها في خزنةٍ في مبنىً في لندن دمّرته قاذفات غاراتٍ ألمانيةٍ في الحرب العالمية، ثم وُجدت النسخة في مأمنها متفحّمة. .. تُراه نحسٌ، أم هو مكنونٌ ما في الرباعيات نفسها، وهي التي اعتنت بالوجود والفناء، بالبقاء والغياب؟. سيكون كلاما متفلسفا، لو سيق القول (أو السؤال؟) على هذا النحو، فليس في الأمر كله سوى غرق سفينةٍ اسمها تايتنيك لم يفلح بنّاؤوها في التحسّب من الأقدار وأنوائها.