علّمني طارق البشري .. ذكريات في بيته
هذا المقال بمثابة "رد جميل" لمفكر مؤرّخ قاض مصري جليل، رحل عن دنيانا قبل أيام. أفسح وقته وفتح بيته أمام تساؤلاتي مع نقاشات ثريةٍ في زيارات على مدى أربعة عقود. وتواضع فقرأ كل ما قدّمته إليه من كتب ودراسات منذ شبابي الباكر، وناقشني فيها، وتحمّل كثيرا اختلافي ومشاغباتي معه. وبالفعل، علمني المستشار طارق البشري، في محطّات عديدة من حياتي، بفعل التفاعل المباشر، أو عبر قراءات لمؤلفاته وإسهاماته في الصحافة الثقافية والعامة. وأعتقد أن علاقة كهذه ممتدّة هي بمثابة "دراسة حالة" لما كان يفعله مع مصريين عديدين وغيرهم، وأيضا لتفاعل أجيال.
ولد طارق البشري بعد ثورة 1919 بنحو 14 عاما، وهي أظنها من الأحداث الجسام في تكوينه وتوجهاته. اهتز في العمق بهزيمة يونيو 1967، وكان عمره 43 سنة، بينما كنت في التاسعة. لكنني سرعان ما كنت بين جيل أنضجته صدمة الهزيمة وآلامها مبكرا. جيل قرأ ووعى كتاباته في عقد السبعينيات في مجلات ثقافية سياسية لليسار المصري، تصدر على هامش المؤسسة الصحافية للدولة، "الطليعة" عن "الأهرام" و"الكاتب" التي احتضنتها دار التحرير صاحبة يومية "الجمهورية". ثم سرعان ما قرأنا له، خلال هذا العقد، كتبا ثلاثة أسهمت في خلخلة قيم وتصورات عن تاريخ مصر السياسي، سعت مناهج التعليم الرسمية في عهدي الرئيسين، جمال عبد الناصر وأنور السادات، إلى هيمنتها على عقولنا. وقد كنا، ومن سبقنا بسنوات، نفيق مفزوعين حيارى على الهزيمة المسمّاة رسميا "النكسة"، لنقتل "الأب/ الريس"، ونبحث عمّن نتحاور معه، ويتحمّل نقدنا وغضبنا.
وعندما أنظر إلى الأمر اليوم، أدرك فضل كتبه "الحركة السياسية في مصر 45 ـ 1952" و"الناصرية والديمقراطية" و"سعد زغلول يفاوض الاستعمار". حقا.. أسهمت، مع كتب لمؤرخين جاؤوا من الجامعات المصرية، كالراحل محمد أنيس وغيره، بعد 1967، في أربعة أمور: بناء رؤية نقدية لتاريخ مصر السياسي الرسمي الحديث والمعاصر، والكشف عن أحداث مهمة كانت طي التجاهل والنكران من نظام شمولي، يقوم على عبادة الحاكم الفرد (الريس)، ويصم ما قبل 23 يوليو بالسلبيات في المجمل، ويقلل من أهمية المبادرات المجتمعية غير السلطوية، وإحياء قيم الديمقراطية والتعدّدية في سياق كفاح الشعب من أجل الاستقلال الوطني، وإعادة الاعتبار بالمنهجية وطرح القضايا المسكوت عنها للقوى الاجتماعية في بلادنا.
يستحق طارق البشري جهد دراسته وفهمه في سياق التحول بين كوكبة من المثقفين اليساريين المصريين، بعد سنوات من 1967
التقيت طارق البشري، صاحب الكتاب الرابع، المهم أيضا عندي وجيلي في شبابنا، "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"، الصادر مطلع الثمانينيات. وفي تلك الأيام، فتح أمامي بيته للمرة الأولى. لم أذهب إليه حاملا تساؤلات ومسائل تتعلق بما قرأت في كتبه ودراساته الموثقة في التاريخ وحسب، بل تأبطت أيضا أوراق دراسة غير منشورة، كتبتها بعيد التخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة، تتناول بتحليل المضمون افتتاحيات المجلة الشهرية، الدعوة، الناطقة باسم جماعة الإخوان المسلمين، المصريين، والتي عادت إلى الصدور في نهاية بين 1976و1981. وفي زيارة لاحقة، ناقش المفكر المؤرخ الكبير، المعروف جيدا بين المثقفين ويكبرني بربع قرن، باهتمام الدراسة ونتائجها نقاشا معمقا مشجعا، تعلمت منه كثيرا. ومن ذلك ملاحظته بشأن استخدام الدراسة لقب "ناصر". أتذكر أنه قال لي، بلطف وبأدبه الجم مع قدر من الفكاهة: "الكلمة خواجاتي وببرنيطة.. لماذا لا تكتب عبد الناصر؟".
وكانت هذه الملاحظة، الشكلية البسيطة، لكن الذكية، مدخلا إلى حوار أعمق امتد عن الأصالة، وإعادة قراءة التراث والسعي إلى التمسك بجذور الهوية العربية الإسلامية. وكنت حينها، وأنا الشاب اليساري المستقل، أدرك أن المفكر المؤرّخ يجرى تحولاته من الماركسية إلى لون ما من "الإسلام الحضاري/ السياسي" . وبعد نحو العامين، بين 1983 و1984 أجريت معه حوارا عن هذا التحول الذي دشنته، على نحو لافت، مقدمة الطبعة الثانية من كتاب "تاريخ الحركة السياسية 1945 ـ 1952". وقد تضمنت مراجعاتٍ لافتة ومثيرة للجدل، وجلبت عليه وما زالت هجوم يساريين وليبراليين. واعتمد هذا الحوار لمجلة الشراع اللبنانية أسئلة نقدية، قد يراها بعضهم "محرجة"، لكنه لم يغضب منها أبدا.
يستحق طارق البشري جهد دراسته وفهمه في سياق هذا التحول بين كوكبة من المثقفين اليساريين المصريين، بعد سنوات من 1967. ولعل من أبرز أعلامه الراحلين عبد الوهاب المسيري وعادل حسين ومحمد عمارة، وثلاثتهم بالترتيب، وبدرجات متفاوتة، لم يقتلعوا جذورهم اليسارية الماركسية تماما، بل ظلوا يحتفظون، على الرغم من تحوّل كهذا نحو "الإسلامية"، بمنهجياتٍ وإخلاصٍ لقضايا مجتمعية تعود إلى اليسار. وأستطيع اليوم، وعلى بعد كل هذه السنوات، ملاحظة جامع فكري طريف، يربط بين البشري ورفاقه هؤلاء وبين اثنين من خارج "نحو الإسلامية"، جلال أمين وسمير أمين، أخاله مقاومة التغريب والتبعية للنموذج الغربي الأوروبي الأميركي والاستهلاكية والنيوليبرالية، مع درجات متفاوتة من البحث عن "الهويات" و"الأصالة".
نقد البشري للطبيعة السلطوية العسكرية البوليسية للنظام الناصري لم يمنعه من التعبير عن تقديره المنجزات الوطنية والاجتماعية لعبد الناصر
ولعل التحول إلى "الإسلامية" جاء ترجمة أيضا لإخفاق جماعات اليسار المصري وعجزها على الصعيد المجتمعي السياسي بعد 1967عن تطوير الخطاب وطرق العمل لبناء شعبية وازنة، فيما كان "الإسلام السياسي" ينتشر مجتمعيا، وبين شرائح الطبقة الوسطى الجديدة، وفي صعود. ولعل مقاومة "الاغتراب" في الداخل المحلي، وإزاء الخارج الأوروبي الأميركي، وما يترتب عليه من "انعزال الأفكار ولا فاعليتها" تحمل تفسيرا، من بين عوامل عدة، لسياق هذا التحول. ومع هذا، يتعين القول إن نقد طارق البشري الذي أبهر جيلي الطبيعة السلطوية العسكرية البوليسية للنظام الناصري، وسحقها تراثا ديمقراطيا عرفته مصر سابقا، وجنايتها على الحريات، لم يكن ليمنعه (البشري)، خلال زياراتي بيته، من التعبير عن تقديره المنجزات الوطنية والاجتماعية للرئيس عبد الناصر، وحرصه على التمييز بينه وبين خليفتيه، أنور السادات وحسني مبارك.
تفيد الحوارات الثرية في بيت طارق البشري، والتي امتدت إلى ما قبل وفاته بنحو عامين، بأنه كان لدى الرجل منطقه وطبيعة شخصية ألزمته، إلى حد ما، "بيت القاضي"، فعزف حتى بعد تقاعده من الوظيفة في القضاء الإداري عن المشاركة في الفضاءات السياسية أو الحزبية في الأغلب. ولكن ثمّة "نقطة توتر" فكري هنا بين احترامه وتقديره الكبير، باعتباره رجل قانون، الدولة ومؤسساتها ونزوع مؤرّخ يحلل البنيات والتغيرات المجتمعية السياسية الأرحب، إلى تجاوز "الإصلاحية" تجاه تغوّل سلطة الدولة على المجتمع والمواطن إلى "ثورية" ما. وهذا "التوتر الفكري" أظنه يستحق أن يعكف عليه بحّاثة جادّون. والانتقادات التي توجّه إليه بشأن عمل لجنة التعديلات الدستورية في ظل المجلس العسكري الأول بعد ثورة يناير (2011) يمكن مناقشتها في سياق فهم هذا "التوتر" أيضا.
كان البشري مفكّرا مؤرّخا ورجل قانون وقضاء، وظل دائم التساؤل عن تجربة حركة النهضة، ومدى اختلافها عن مسار الإخوان المسلمين في مصر ومصيرهم
علمتني هذه الحوارات كيف أن مفكّرا مؤرّخا ورجل قانون وقضاء بهذه القامة، يتمتع بصبر وحلم تقبل الاختلاف بين التيارات الفكرية السياسية والأجيال، شديد الاهتمام بأن يستمع إلى رأيك، بما فيه ملاحظاتك النقدية لكتبه وكتاباته. شديد الاهتمام بما تكتب، يناقشك بعناية، ويفيدك بملاحظاته. ولا يأنَف من الجدال أو يتذمّر منه، إلا فيما ندر جدا. انتقدت كتاباته المتأخرة عما أسماه "التيار الأساسي في الأمة"، وتجرّأت وفي بيته بالتعبير عن خشيتي من فتح الباب لفاشية تستند إلى دين الأغلبية في مصر، ولم يغضب. ونشرت في "الأهرام" بعد عام 2013 عرضا نقديا متعدّد الأوجه لكتابه "محمد علي ونظام حكمه"، فأسعده فيما كان محاصرا إعلاميا وصحافيا. بل بقيت للجدل فصول أخرى وآفاق من دون أن تفسد المحبة، أو يفتر الاهتمام. ولطالما ناقشني فيما كتبت عن تونس، نظرا إلى زياراتي المتكررة لها وإقامتي فيها مراسلا لصحيفة الأهرام. وظل دائم التساؤل عن تجربة حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي، ومدى اختلافها عن مسار الإخوان المسلمين في مصر ومصيرهم. ولم تكن آرائي توافقه تماما، لكنه ظل دائم الرغبة في الاستماع والنقاش.
ولا أعرف عثراتٍ اعترضت علاقتي به أبدا مع اختلاف الأجيال والآراء والتوجهات. ويوما حملت إليه نسخة إهداء من كتابي "خريف الإخوان"، الذي نُشر في القاهرة يناير/ كانون الأول 2105 (لم يوزّع)، ويتضمن ما قاله في مقابلة خاصة من أجل الكتاب عن علاقة "الإخوان" بمؤسستي الجيش والقضاء بعد ثورة يناير، مع تعريفٍ لم يستسغه بأنه "المفكر الإسلامي المتعاطف مع الإخوان". وعندما عدتُ إلى بيته، اكتفى بلوم عابر، معترضا على هذا التعريف، في سياق نقاش جادّ، وملاحظات موضوعية على الكتاب.
رحمه الله ولروحه السلام والمحبة .. هكذا علّمني.