على هامش شهادة المعلم يعقوب!
عرف الإسلام، في تاريخه، العلماء والمفكرين والفلاسفة والأدباء، النخب وقادة الرأي. كما عرف ظاهرة "القصّاص"، الوعاظ، رواة القصص والحكايات والحواديت، بهدف التأثير في الناس، واستدرار دموعهم، وسحب الأموال من جيوبهم، دعما للشيخ صاحب العظة، وكان أصحاب هذه الظاهرة يتسمون بالجرأة الشديدة، والقوة في طرح ما لديهم من خزعبلات، والقدرة، غير الطبيعية على الادّعاء.. ادّعاء التقوى، وادّعاء العلم، وادّعاء رواية الحديث، وادّعاء أن النبي قال كذا وكذا، وادّعاء أنهم سمعوا الرواية من فلان وفلان، واتسم خطابهم بالمبالغة الشديدة، في وصف الجنّة، والتركيز الكوميدي على المتع الجنسية، والتخويف الشديد، من النار، وربطها بمحرّمات متخيّلة، والتدليل على هذه المحرّمات بنصوصٍ متخيّلة، مخترعة، مفترضة، موضوعة، من إبداعاتهم، أو استخدام النصوص الحقيقية، بعد انتزاعها من سياقها وتشويهها، وتكرار الإساءة، والإلحاح عليها، ودعمها بالقصص التراثية المزوّرة أو المحرّفة عن الأصل، حتى تصير حقيقة، بسلطة الشيوع، ويصعب إقناع الناس بأن ذلك كله نصبٌ واحتيالٌ ولا وجود له من الأصل.
بدأت ظاهرة القصّاص بعد فتنة عثمان، واستمرّت في الدولة الأموية، واستفحلت في الدولة العباسية، وجرى توظيفها سياسيا، وكانت لها آثار مرعبة في شيوع الأحاديث الموضوعة التي كان يؤلفها هؤلاء القصّاصون، وتسببوا، بطبيعة الحال، في إفساد حياة ناسٍ كثيرين، حرّموا على أنفسهم ما أحلّه الله لهم، وتقرّبوا إلى الله بالجوع والفقر، وهاموا على وجوههم، وتجاوزوا المعرفة العلمية إلى الحكايات والحواديت. وقد واجه العلماء والمفكّرون هذه الظاهرة، في حينها، بالنقد والتحليل، ولم يخشوا شعبية هؤلاء، والتفاف الناس حولهم، وحذّروا منهم، ومن كذبهم وتضليلهم. وجرى تناول الظاهرة في كتب متخصصة مثل: الباعث على الخلاص من حوادث القصّاص للحافظ عبد الرحيم العراقي، والقصاص والمذكرين لابن الجوزي، وتحذير الخواص من أكاذيب القصّاص للسيوطي، وغيرها.
استمرت الظاهرة، صعودا وهبوطا، حسب الاستغلال السياسي لها، إلى أن وصلت إلى عصرنا الحديث، وتمثّلت فيما سمّوا دعاة الصحوة الإسلامية، ثم الدعاة الجدد، ودعاة الفضائيات، ودعاة "السوشيال ميديا"، و"اليوتيوبر" الإسلامي. وارتكزت على المرتكزات نفسها، واستثمرت في الهزيمة الحضارية، واستفادت من خطاب الأنظمة الناصرية والبعثية في الستينيات، وأعادت إنتاجه دينيا في السبعينيات، ولم تزل. ومرّرت من تحت لافتات العزّة والكرامة، بالدين طبعا وليس بالوطن مثل سابقيهم، كل ما من شأنه تجهيل الناس، وشحنهم بالغضب والكراهية، ودفعهم، إلى العنف والتطرّف، بخطاباتٍ مباشرة حينا، وملتويةٍ، أحيانا أخرى، وطرحت نفسها بوصفها الحلّ الوحيد والاستثناء الفريد. واعتمدت، مثل القصّاص القدماء، على الأفكار الغريبة، والشاذّة، مع بعد عاطفي مراهق، يستدرّ التعاطف والدموع والإحساس الدائم بالظلم والمؤامرة عليهم، ومن ثم على الإسلام .. مؤامرة الدولة، ومؤامرة المختلف فكريا، مؤامرة القوميين والليبراليين واليساريين والحداثيين والعلمانيين، مؤامرة الإسلاميين، من غير القصّاص والوعّاظ، مؤامرة الغرب الكافر، الكون كله يتآمر علينا، والكون كله يتربّص بنا، والكون كله يخطّط ضدنا. ووجدت تيارات القصّاص الجدد من الدعم المادي الضخم ما مكّنها من فتح فضائيات والسيطرة على منابر، والتسويق الإعلامي والإلكتروني. وجرى توظيفهم، أدركوا هذا أم لم يدركوه، في خدمة أنظمة الاستبداد العربي، وجعل معادلة السلطة في بلادنا هي إما النظام أو هؤلاء. وقد ظهر ذلك، بوضوح، في قدرة الأنظمة في استخدام هذه الخطابات وأصحابها في إفشال الربيع العربي، والعودة من خلالهم، وعلى جسورهم، إلى السلطة.
كان الشيخ محمد حسين يعقوب ورفاقه جزءا من ظاهرة القصّاص الجدد، وخطاباتهم التي تسبّبت في تدمير عقول وحيوات، ولقيت دعما ماديا وأمنيًا، لتوظيفهم، وضرب التيار الديمقرطي، ومنهم الإسلاميون الإصلاحيون، بهم. ولذلك أستغرب من خطاباتٍ تعتبر الشيخ المسكين ضحية الاستبداد السياسي، وهو ابنه وربيبه، ومن خطاباتٍ، من المفترض أنها نخبوية، تعتبر الشيخ عالما، نختلف معه في المنهج! لكننا نتضامن معه في مواجهة الاستبداد! أتصوّر أن الموقف "العلمي"، في مواجهة ظاهرة القصّاص الجدد، هو موقف العلماء السابقين: المواجهة، والنقد الجاد. وليس الغزل الفاحش، والتبرير، تحت لافتات التضامن مع الدواعش والمجرمين.