عقائد "الإسلاميين" وانقلابات "العلمانيين"
"نَشْر الحكمةِ في غير أهلها يورّث العداوةَ ويطرح الشحناءَ ويقدح زَندَ الفتنة". تبدو صحيحةً مقولةُ أبو حيان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة". وتشبه مقولةً يروّجها رافضو الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، أو في البلدان الناطقة بالعربية، والقائلة إن تلك البلدان لا تستحق الديمقراطية، لأن هذه البلدان تسيء استخدامها... المقولة صحيحة من حيث المبدأ. يصعب أنْ تناسب الديمقراطيةُ مجتمعاتٍ بوعي متدنٍ، أو بنمط حياة لا يتفاعل مع حرية الرأي والفعل والعقيدة. وكذا المعرفة التي عناها التوحيدي بمفردة "الحكمة"، فغير الأهل للمعرفة يسيء استخدامها لأغراضه الخاصة. لذلك في المجتمعات غير المؤهلة تحوّلت فلسفاتٌ ومعارف ومدارس فكرية عديدة إلى أيديولوجيات قتلت المعرفة والفلسفة والفكر.
لكن المعرفة على مر تاريخها انتشرت في مجتمعاتٍ لم تكن ناضجة ومؤهلة. المعرفة هي ما أهلت غير المؤهلين، بعد أن نشرها بينهم أناسٌ مميزون. الأمر بسيط: الانتقال مِن الجهل إلى العلم هو الأصل. والجدارة تأتي بعد أنْ تسود الرؤيةُ وتنتشر الحكمة. الحضارة الغربية مثال مهم، كونها سادت بسوء استغلال قدراتها المعرفية، وانتهكت روحَ فلسفتها بالبطش والتوسع، لكن مع الوقت علت الأصوات رافضةً ما حصل، وسعت إلى التخفيف من غلواء العنجهية اعتماداً على وسائل القدرة تلك.
كان الفيلسوف البريطاني، برتراند راسل، أكثرَ المناهضين للحرب العالمية الأولى، في وقت صفق لها كثيرون مشتغلين بالفكر والثقافة داخل الإمبراطورية. رآها حرباً عبثية، وتمنّى لو اتّخذتْ بلادُه طريقَ الحياد. لم يهمّ الرجلَ انتصارُ بريطانيا، ولا أنْ يصبح مرفوضا كونه رفض خطوة دولته. بعد أقل من عقدين، اختلف الوضع، وراسل الذي كان أقليةً قبل بضعة أعوام لم يعد كذلك. الحرب مثّلت بالنسبة إلى جلّ الإنكليز كابوسا لم يُرد أحدٌ السعي إليه. وعلى الرغم من اضطرار لندن إلى المشاركة جرّاء ما فعله هتلر، لم تتصرّف حكومة تشرشل بذهنية المنتقم بعد انتهاء الحرب، بل اكتفت بالمشاركة في بعض المحاكمات لقادة ألمانيا، من دون مزيد من منهجية الإذلال التي كانت بعد الحرب الأولى. لقد انتصرت حكمة راسل الرافضة جريمة الحرب، على الرغم من أن الحرب وقعت ودمرت وأسيء استخدام القوة فيها خلال مجرياتها.
من هنا، تصحّ مقولةُ التوحيدي وصفاً. في المقابل، من غير العدل القبول بها نهجاً يُعتَمد في الأفعال والسياسات. وكذا مقولة إن الديمقراطية منهج حكم لا تعيه شعوبٌ غير ناضجة وصف صحيح، لكن التشبث لاستبدالها بالاستبداد هو حرمان المجتمعات دورتها في التاريخ. الديمقراطية منجزُ البيئة الغربية بكل تفصيلاتها وفلسفاتها وطبيعتها الصناعية، مرّتْ بأولويات ومقدّمات، وأخفقت في محطاتٍ عديدة، وقست كثيراً في وفير من الأحداث. الثورة الفرنسية، وهي وليدة فكرة العقد الاجتماعي والحرية والديمقراطية والمواطنة، انتهت إلى واحدةٍ مِن أكثر الفترات دموية، وتسلق عبرها أحدُ أكثر الزعماء توسّعاً وغرورا واستبدادا. حزب هتلر استغل حالةَ الإذلال التي كانت تتعرّض لها ألمانيا ليتسلق عبر الديمقراطية، ويبدأ أكثرَ الحقب دموية.
حزب هتلر استغل حالةَ الإذلال التي كانت تتعرّض لها ألمانيا ليتسلق عبر الديمقراطية، ويبدأ أكثرَ الحقب دموية
في النهاية، تَحكمُ ألمانيا الآن منظومةٌ حزبية أكثر ديمقراطيةً مِن محيطها الأوروبي نفسه، وعلى رأسها سيدةٌ يقال إنها من أكثر الزعماء إنسانية. أيْ إنّ تاريخاً من الإخفاقات في بلدان منشأ الديمقراطية أوجد طريقاً جديداً لبناء حرية التعبير والاختيار والتناقل السلمي للسلطة... الولايات المتحدة التي حكمها عنجهيون أحيانا انتخبت رجلاً من أصول أفريقية، على الرغم من أنها اعتمدت، إلى وقت قريب، التمييزَ بين البيض والسود، حتى في الشوارع التي يمكن المرور بها. وحين صعد إلى حكمها عنصري شعبوي، تخلصتْ منه بالأساليب الديمقراطية ذاتها التي أوصلته.
في بلدان اللغة العربية، عدا عن استثناءات، انهالت العلمانية الموجهة عقائدياً أو قومياً على الجمهوريات المؤسَسةِ، بدءا من الأربعينيات مرورا بالزمن الناصري منذ الخمسينيات. أسقطت تلك "العلمانياتُ" علمانياتِ فترة ما بعد الاستعمار، واستثمرت لصالحها القضيةَ الفلسطينية وصعودَ الشيوعية العالمية والرغبةَ بالاستقلال، ونجحت. قمعت وأساءت استخدامَ السلطة تلك الأنظمةُ التي أطلقت على نفسها صفة العلمانية. هي لم تكن بالضبط علمانية، لأن القوانين كانت مزيجاً مشوّها من التقاليد والإسلام والقوانين الفرنسية، باستثناء تجربة تونس التي حصلت فيها العلمانية على مرحلةٍ متقدّمة من القوانين والتطبيقات.
في بلدان اللغة العربية، عدا عن استثناءات، انهالت العلمانية الموجهة عقائدياً أو قومياً على الجمهوريات المؤسَسةِ، بدءاً من الأربعينيات
لم تكن تونسُ قطعاً ديمقراطية، لكنها كانت علمانيةٌ بالتأكيد، فالديمقراطية بالضرورة علمانية، لكن ليس كلُ العلمانيين ديمقراطيين، والشيوعيون أعداءُ الديمقراطية عمليا مثال على ذلك. غير أن الإرث البورقيبي بعد انتفاضة 2011 صنع بلدا خطّ أولى خطواته الديمقراطية. أخطأ النظام حين صنع مزيجا مشوّها من النظام الفرنسي الرئاسي والبريطاني البرلماني. في النهاية، لم يرد خسارة المركزية كما حصل في العراق بعد 2003، ولم يكن يريد أنْ يخسر الحماية من احتمال استخدام رجل واحد كل الخيارات المتاحة لاستعادة الدكتاتورية. لكن ترددَه ذلك وضع البلدَ في لحظة صعبة، على الرغم من أنه أكثر البلدان الناطقة بالعربية امتلاكا للمقومات المدنية في صناعة السلطة الخاضعة للنقد والرفض والنقاش والمراجعة، والأكثر انسجاماً من حيث التركيبة المجتمعية. وها هو يواجه انقلاباً بذريعة الفساد، أو بذريعة استهتار الإسلاميين.
حرية التعبير والنقد في البلدان غير المعتادة عليها تواجه رغبةً موازيةً أو مضادّة تخلقها ذرائع السياسة، فالتهديد الأكبر للحريات، كما الديمقراطية، أنها ليست عميقة بما يكفي في مواجهة الذرائع. تجد الذرائع صدىً شعبياً قد يصل إلى حد افتراض أنه اختيارُ الشعب للتخلي غير الواعي عن حرية اختياره. على مر سنوات النظم العسكرية والديكتاتوريات الجمهورية والملكية، كانت ذريعةُ الأمن القومي أو الوطني المدخلَ المستمرَ لخنق الخيارات. في البدايات، وجدتْ النظمٌ شرعيةً لذلك عبر الشعب المصفق لأحلامه، والخائف على استقراره والحالم بمستقبل أفضل، ثم واصلت لعبتَها بعد أن أقامت قواعد بقائها حتى بعد فقدانها مَن صفقوا الأملَ بها.
ذريعة التخلص من الإسلاميين لصناعة الديمقراطية هي امتدادٌ لذرائع النظم القمعية التي حكمت بلداناً باتت اليوم فاشلةً ومفكّكة وفقيرة
وخلال موجة ما يعرف بالربيع العربي، كانت ذريعةُ القمع وعدمُ التغيير الخوفَ من صعود الإسلاميين وتسلقِهم الديمقراطية. تلك الذريعة صحيحة نظرياً، فعدم الانسجام بين الجماعات السياسية الإسلامية والديمقراطية لا يخفى، وعدم إيمانها بالحريات هو عقيدة تَعتمد أسسا دينية. والإسلاميون حين بدأوا بالحديث عن الديمقراطية باعتبارها الخيار، بعد أن كانوا يكفّرون القائلين بها، لم يفعلوا ذلك استناداً إلى تحوّلات جذرية في رؤاهم أو مقاربات فكرية تطمئن الخصوم، بل كان انتقالا نفعيا فرضه الوقت. لم تقدّم الحركاتُ الإسلامية رؤيةً صريحةً بشأن الحريات باعتبارها الأساس للديمقراطيات.
هذا صحيح، غير أن الأمر، ومن الناحية العملية، يبدو ذريعةً جديدة للانقضاض على خيارات مجتمعية، اعتماداً على خيارات مجتمعية أخرى، وهذا مقتل أيِّ ديمقراطية، فالأساليب القمعية والانقلابات لا يمكن أن تصنع الخيار الحر والتناقل السلمي للسلطة. تلك الأساليب مدخل للنزعات البشرية الفاقدة أي رادع في الطريق إلى القوة والتسلط والتحكم. هناك لَبْس صريحٌ متداول لدى المجتمعات الخائفة من اللااستقرار، هو مصطلح "المستبد العادل"، فلا مكان لمستبدٍّ كهذا إلا في أوهام من لا يفهمون معنى الاستبداد. الديكتاتورية ليست عادلة، حتى لو اختلفت درجاتها من بلد إلى آخر. ستالين أكثر بطشاً وعنجهية من تيتو، لكن الاثنين ليسا عادلين، وكلاهما أوجدا أسباب التفتت داخل بلديهما، وصنعا الظلم، ومهدا لمراحل مؤلمة، فضلا عن أنهما حكما بالنار والألم والقتل دولتيهما.
في رواية دان براون "شيفرة دافينشي"، يأمر المعلم لي قسّاً منشقاً بإيجاد "الكأس المقدّسة". يبحث عنها القس، ويسعى إليها المعلم أيضا، القتل طريق كان مشتركاً عبر ناسك متيقن، لكن الهدف لم يكن مشتركاً. سعى لي إلى إحياء عقيدة أن المسيح بشر، بينما هدف القس إلى القضاء على أي إشارة إلى تلك العقيدة. كلاهما بات مجرماً، بمعزل عن أي من الفكرتين كانت الحقيقة أو ستكون. هذا بالضبط ما حدث ويستمر بالحدوث في بلدان اللغة العربية. إنه التناحر على الحقيقة عبر الجريمة، عبر سلب المجتمعات حق الحياة بلا حاجةٍ إلى دفع أثمانٍ باهظة فقط لأنها حاولت.
خلال موجة ما يعرف بالربيع العربي، كانت ذريعة القمع وعدم التغيير الخوف من صعود الإسلاميين وتسلقهم الديمقراطية
وذريعة التخلص من الإسلاميين لصناعة الديمقراطية هي امتدادٌ لذرائع النظم القمعية التي حكمت بلداناً باتت اليوم فاشلةً ومفكّكة وفقيرة. ليس سليماً التذرّعُ بأن الإسلاميين أعداء الديمقراطية للانقضاض عليها، لأنه انقلابٌ على دورة الزمن. عقائديا، لا يمكن الثقة بالإسلاميين، فقدرتهم على تقبل التعايش صعبة، لكن الديمقراطية هي الموضوع وليس هم. نعم المرجوّ أن ترقى المجتمعات إلى ما هو أبعد من إفراز مَن لا يؤمنون قولاً وفعلاً وعقيدة. والإسلاميون، بطبيعة الحالة، لا يمكن أن يؤمنوا بالديمقراطية، إلا إذا غيروا تفسير قاعدتهم الفكرية والعقدية. لكن هذا المرجو لا تخلقه رغبات توقف مسار الزمن ودورته. والإسلاميون هم جزء من هذه الدورة الزمنية التي لا يمكن أن تستمر وتتقدّم إذا لم تمر بهم الشعوب، بل هم التمثيل الأوضح لعقائد المجتمعات. أثبتت التجربة ذلك، إذ يعود الناس إليهم، حين تنتكس تجارب الحكم. أفغانستان خلال ثمانينيات القرن الماضي كانت تتويجاً لحالة جل الدول المعتقدة بالإسلام التي أرسلت "المجاهدين"، فتبلورت القاعدة بعدئذ. وحتى تتقدّم الشعوب، تحتاج تجربةَ خياراتها والوقوعَ في شرور أو خير أعمالها، وإلا فستبقى تبدور حول فشلها.
أظن أن التجربة الإيرانية درس غير مكتمل دفع مراكز القوى غير الإسلامية في المجتمعات الناطقة بالعربية إلى الانقلاب على الإسلاميين. تظلّ التجربة مثالا على كيفية تخلص الإسلام السياسي من الخصوم، أي على المثال العكسي لما يحدث في تونس اليوم وحدث في مصر سابقاً. أسقط آيةُ الله الخميني في إيران كلَّ المنافسين لتجربته. فرض إرادته، ثم تحولت اللحظة الديمقراطية التي أوجدتها الثورة إلى ثيوقراطية. إلا أن إيران مثال مختلف تماما. تجربة رجال الدين امتداد لأكثر من قرن أصبحوا فيه المركز الرئيس لشتى التحولات، وباتوا حجر زاوية أرّق النظامين، القاجاري والبهلوي، فالنظام الديني الحاكم هناك ليس فقط دينيا، بل هو تمثيل لروح الرغبة الإيرانية بالتوسع والهيمنة، وبفضل هذا استمر، مع أن عوامل استمراره الداخلية انتهت. العوامل الداخلية المفقودة تتعكز الآن على الاشتغالات الخارجية، على الهم الفارسي بالعظمة. وعلى الرغم من قوة تأثير ما يوفره النظام السياسي من عظمة خارجية، لم يعد الداخل مهموما كثيراً بالأمر، ونسبة مشاركة المدن الكبرى المتدنية في الانتخابات أخيرا مؤشّر مهم على ذلك. الأمر يشبه تركيا نوعاً ما. لقد نجح أردوغان داخليا في صناعة اقتصاد عظيم، ثم اعتمد على أحلام الإمبراطورية القديمة للأتراك. أجاد اللعبة ردحا، لكنه الآن يواجه الأزمات الداخلية التي ستنتهي قريباً إلى تعجيزه عن أي عوامل خارجية للبقاء.
تركيا وإيران تمرّان بدورتيهما التاريخيتيين، وأظن أنهما، على الرغم من صعوبات الحاضر، ستعيدان إنتاج ذاتيهما اعتماداً على مسار الزمن الذي لم يتلاعبا به، بل مضيا فيه بما يشبه تاريخيهما. أما البلدان العربية والناطقة باللغة العربية فهي لا تسير في هذا الاتجاه بتاتاً، بل تعود إلى الساعة الصفر، كلما خافتْ من مجهول القمع الديني أو اعتمدت على صراعات العسكر والإسلاميين، أو صراعات المدنية الوضعية في مواجهة الدينية السياسية.