عبد الناصر في "1970"
عهدُ جمال عبد الناصر هو الأفضل في مصر، كانت فيه تسير على الطريق الصحيح، طريق البناء والمقاومة والكرامة.. ليس قائل هذا ناصريا متحمّسا، وإنما أحد مساجين عبد الناصر اليساريين، صنع الله إبراهيم. أدلى به إبّان كان يكتب روايته "1970" (دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 2019). ولم يكتبها، على ما يتبيّن، صدورا عن إعجابٍ كبيرٍ بالزعيم المصري الذي عَبَرت، الثلاثاء الماضي، ذكرى رحيله الـ51، وإنما، على الأرجح، لأنه "شخصيةٌ دراميةٌ من الطراز الأول"، كما وصفه صنع الله مرّة، وإنْ يحضُر ربما في حشايا الكاتب شيءٌ من الإعجاب بالرئيس الذي منحه بطولة روايته. وجاءت هذه في بساطةٍ باهظةٍ، مع حرفيةٍ عاليةٍ في مزاوجاتها بين الشخصي والعام، الإنساني والاجتماعي، المصري والعربي، التجريدي والمحسوس، الذهني والمُعاش، في بناء شخصية عبد الناصر الذي اتّجهت الرواية إلى محاسبته ونقده ومؤاخذته، بل ومحاكمته أحيانا، مع تظهير مكانته وزعامته ومُنجزِه وصنيعه في غير أمرٍ وشأن. وذلك في مبنىً من السرد ينهض على مخاطبة راوٍ عليم عبد الناصر، يحكي له، يتحدّث إليه، ويجولُ معه على أزمنةٍ وذكريات، عنه شخصا وفردا، وعن مصر والأمة العربية لمّا اشتبكت مسؤوليات القيادة والرئاسة والعمل العام بشؤونهما.
وإلى خيار "1970" تقنيّا هذا، كان صنع الله وفيّا لمزاجه الذي يميل إلى "الكولاج" في تأثيث عمله السردي، والمعهود في صنيعه في غير روايةٍ سابقةٍ له، عندما يُؤالف بين الحكي ونتفٍ من أخبارٍ من صحفٍ وتلفزاتٍ ووكالات أنباء، ويكاد هذا يكون نصف الرواية التي تبلغ 240 صفحة، ليبثّ، من خلال انتقاءاته، ما لا يختار الإفصاح عنه في متن القصّ ومساره، وليحيل إلى فضاء اجتماعي وسياسي وثقافي، تتحرّك في إهابه أحداث الرواية ووقائعها. ولمّا انتهج صاحب "التلصّص" هنا صيغة اليوميات، فطاف في العام 1970، بدءا من اليوم الأول وانتهاء بـ29 سبتمبر، اليوم التالي لوفاة عبد الناصر، فإنه بذل في "شغله" هذا مجهودا غير هيّن، فقد مرّت الرواية على مئات الوقائع المصرية والعربية والعالمية، قبل هذا العام وفي أثنائه وبعده، سيما وأنه أراد الإيحاء بسمْتٍ توثيقي، وثائقي، حيّ، للنصّ الذي يحدُث، عندما يغادر زمنا مضى إلى آخر لاحق، تالٍ لوفاة عبد الناصر بسنواتٍ، أن يُخفق أحيانا، عندما "يفترض" معرفة عبد الناصر بها، من دون أن يكون هذا مقنعا، من قبيل دراية عبد الناصر بقبض الملك حسين راتبا شهريا من المخابرات الأميركية. وعندما يتزيّد، مثلا، في الإتيان على أن ضابط الطيران الشاب، حسني مبارك، "صار فيما بعد من تجار السلاح الكبار ذوي العلاقة الوثيقة بأجهزة المخابرات الغربية".
لا مجازفة في افتراض أن صنع الله إبراهيم، المثقف والكاتب اليساري، هو من يُخاطب عبد الناصر، هو الراوي العليم، هو ضمير "الأنا" المضمَر الذي يحضُر بدلا منه ضمير "أنتَ". ومبعث هذا الافتراض الروحية النقدية التي يتبدّى عليها هذا المخاطِب بشأن الزعيم "العملاق" فيما البقية "أقزام"، على ما يصرّح في واحدةٍ من يوميات عبد الناصر في شهوره الأخيرة في العام 1970. ولم يكن لهذه الروحية، الانتقادية في وصفٍ آخر، لتظهر في تضاعيف الحكي، لو لم يُجر هذا الحكي استعاداتِ وقائع مضت في حياة عبد الناصر، بـ"فلاش باك" في الذهاب إليها، عندما تطابقت، أحيانا، تواريخُ أيامها مع الأيام التي يبسُط فيها المتكلّم وقائع من العام الأخير للزعيم. وهنا في الوسع أن يقال إن من أبرع أنفاس الرواية بشأن عبد الناصر أنها التفتت إلى الذاتي في تفاصيل أيامه، في صباحاته ومساءاته، وذلك بنباهةٍ الحكّاء وحذاقة الأمين على التفصيل التاريخي المدقَّق، عندما "يعيش" القارئ مع عبد الناصر، مع ما يأكل في فطوره (الجبن الاستامبولي مثلا)، وما يتناول من أدوية، وما يكونُه ربّ أسرةٍ وزوجا، وما يطالع من جرائد، وما يدردش به مع هيكل في الهاتف، وعندما يأكل واحدةً من تفّاحٍ جاء به هديةً إليه الرئيس اللبناني، سليمان فرنجية، لمّا قدم إلى قمّة القاهرة التي تتقن الرواية "تصوير" الحركة في أثنائها في "شيراتون القاهرة"، وقد تعلّقت تلك القمّة بإيصال المقاومة الفلسطينية والسلطات الأردنية إلى وقف إطلاق النار بعد مواجهات "أيلول الأسود".
بدا جمال عبد الناصر شخصية دراميةً حقا في رواية صنع الله إبراهيم الرابعة عشرة، كما أظهرت ما فَعل وصَنَع في مختلف محطّات حياته، وما كان عليه في يومياتٍ تخصّه من عامه الأخير، كتبها ساردٌ عارفٌ به، بما فيها عن وفاته المثيرة المفاجئة (ثمّة سطور عن فنجان القهوة الذي أعدّه أنور السادات للرئيس قبل ساعات من الوفاة)، فثمّة الزاهد البسيط، القوي والقاسي، والمرتبك، والزعيم والمهزوم، والمستبدّ والباني، الثائر والانقلابي. ثم لمّا مات، انتهت الرواية بقول مخاطِبه (لعله صنع الله؟) "خذلتَ نفسَك وخذلتَنا .. ثم ذهبتَ، وذهبتْ معك مقدّرات الأمة وآمالها .. إلى حين!".