عالمٌ يقف على رصاصة

19 اغسطس 2023
+ الخط -

إذا وضعت خريطة العالم على طاولةٍ ما، لا عبر الهاتف أو الكومبيوتر، ووضعتَ نقاطاً على أماكن الصراعات الجارية والمحتمل حدوثها، ستجد أن نصف الكوكب في نوع من القتال والنصف الآخر متأثّر به، مباشرة أو غير مباشرة. لم تعد المساحات السلمية واسعةً بالمعنى الجغرافي، بل تتسع حفرة تأكل نفسها. في الشرق الآسيوي قنبلتان: كوريا الشمالية وتايوان. وما بينهما من توتّرات تمسّ كوريا الجنوبية والصين واليابان وصولاً إلى الولايات المتحدة على المقلب الآخر من المحيط الهادئ وأستراليا في جنوبه. في أفغانستان، ساحة اضطرابٍ لا أحد يعلم موعد انفجارها، فليس في القاموس الأفغاني، أقله منذ منتصف السبعينيات، استقرارٌ يتيح لشعب هذه البلاد التنفس. كابول معيارٌ لأي حراكٍ عنفي، يمتد من إسلام أباد ونيودلهي، وصولاً إلى طهران وباقي دول الوسط الآسيوي.

في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يكفي إلقاء نظرةٍ على العراق وسورية ولبنان وفلسطين والسودان وليبيا، ثم الالتفات يمنة ويسرة إلى الدول المجاورة القلقة من أي تمدّد للتوترات وتأثيراتها الاقتصادية والمجتمعية. يمتدّ التشابك الجغرافي إلى النيجر في عمق الصحراء الأفريقية الكبرى، وإلى أوكرانيا وروسيا في قلب العالم، وصولاً إلى الاختراقات الجوية الروسية في أعالي البحار الأوروبية الشمالية.

في الأميركيتين، العصابات هي سيدة الموقف، من هاييتي إلى المكسيك والإكوادور. الاضطرابات هناك أشبه بمرحلة صعود العصابات الإيطالية على السواحل الشرقية للولايات المتحدة في أواخر القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20. الفارق الوحيد أن واشنطن تعاملت مع العصابات كعادتها في التعامل مع الملفّات الخارجية: الاستفادة منها طالما أنها تحت السيطرة. أما في أميركا الوسطى والجنوبية، فالوضع بات خارج سيطرة السلطات هناك. وبالإضافة إلى ذلك، تعاني معظم الدول غرباً وشرقاً من أزمات اقتصادية وديمغرافية واسعة النطاق، تكاد تفلت من قبضتها.

ماذا يبقى إذاً من هذا الكوكب؟ دير بوذي في أعالي بوتان أو جلسة في ظلال الشمس في جبال الأنديز البوليفية؟ أما السؤال الأهم: لماذا لم تندلع الحرب العالمية الثالثة بعد طالما أن كل "ظروفها" توفّرت، من وباء تفشّى في الكرة الأرضية وتعثرت سلاسل التوريد بسببه وارتفاع أسعار المواد الأساسية بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا؟ في الواقع، لا يزال بعضهم في هذا العالم محافظاً على الحد الأدنى من الوعي، الذي يمنع اندلاع حربٍ غير محسوبة نهايتها. يمكن لأيٍّ كان أن يطلق أول رصاصة، لكن من يضمن لأيٍّ كان إطلاق الرصاصة الأخيرة؟

صحيح أن بعض هذه الملفات ـ الساحات قد تكون خاضعة لشروط تفاوض معيّنة، وتوتّرها يندرج في سياق التشدّد الذي يسبق التسويات، لكنها أيضاً دليل على أن بعض حكّام هذا العالم يستمرّون بدراسة خطواتهم أكثر من أسلافهم. كان يمكن، لو كنت زعيماً لبلادك، في الماضي، أن تقف أمام زعيم آخر، ليشعر بالإهانة وتنشب حروبٌ لا تنتهي بسبب هذه الإهانة. الأمور اليوم مختلفة بعض الشيء، سواء لتوازن رعب تُرسيه تسعة أطراف تحمل السلاح النووي، أو لأن الجميع يخشى فعلاً الانخراط في حربٍ عالمية تُنهي عالماً نعرفه ولا تستولد عالماً متعدّد الأقطاب تسعى إليه بعض الدول.

كيف سينتهي ذلك كله؟ مثل حجارة الدومينو. هناك طرفٌ سيخسر في مكانٍ ما، وستتدحرج خسارته في مواقع أخرى. لن يدوم فراغ الخاسر طويلاً، لأن أطرافاً عدّة متوثبة للحلول مكانه، وتحتاج ادّخار قوتها لمثل هذا الزمن. أين يكمن معيار الربح والخسارة؟ في أوكرانيا. هناك كل شيء: روسيا والولايات المتحدة والصين والمعسكران الغربي والشرقي والسودان والنيجر وكوريا الشمالية وتايوان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وعصابات الأميركيتين. هناك المعركة التي ستغيّر مسارات الكوكب برمّته. وستنعكس نتيجتها علينا، في قرانا ومدننا ويومياتنا. وحين ندرك ذلك، سنعود إلى فجر 24 فبراير/ شباط 2022، ونسأل: ما الذي كان يفكر به الرئيس فلاديمير بوتين حين قرّر غزو أوكرانيا؟

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".