عاصمة "قلّة القيمة"
... وما الذي حدث؟ نقل الرجل أجهزة العاصمة من العاصمة إلى العاصمة، وسط البلد في القاهرة وطريق السويس في القاهرة، وهنا مصر وهنا مصر، وأحمد كالحاج أحمد، ما لكم؟ كيف تحكُمون؟ ولماذا تندبون؟ أحياناً يكون الأسوأ من تبرير "المصايب السودا" عدم الوعي بأنها "مصايب سودا"، والاختباء داخل منطقة راحة متوهّمة اسمُها "نختلف معه ولكن..."، و"نحن ضدّه لكنّ الإنصاف يقتضي..."، وقد تعوّدتُ، وقد أكون مخطئاً، أنّ طالب الإنصاف الحقيقي لا يُخطئه، فإن لم يُصبه فالعيب، غالباً، فيه.
مصر.. كلمة لها دلالة عند من ينطقونها.. مجرّد أن تقول مصر فهذا يستدعي، ابتداء، ثراء التاريخ. هنا شخصيتنا، وهنا "خزائن الأرض" التي تحتاج إلى "حفيظٍ عليم"، حفيظٍ يحفظها من مطامع القريب والغريب، وعليم يعلم قيمتها، فيُحسِن إدارتها ويَخلُق منها وبها واقعاً جديداً يستحقّ أن يتحوّل، بدوره، إلى تاريخ عظيم، ومن هنا المستقبل.
ليس في خزانة مصر اليوم سوى "القيمة"، قيمة الأرض، القِدَم، العمق، التاريخ المتشابك والمعقّد والأجمل كقطعة "أرابيسك"، ومن يدهس هذه القيمة، ظنّاً منه أنّ الذهاب إلى مستقبل الدولة يقتضي المرور على وجه "القيمة" وهرس جثّتها، ومساواتها بالأسفلت، فهو قليل الحفظ، قليل العلم، معدوم القيمة، ومن ثم لا مستقبل له هنا.
أراد الخديوي إسماعيل أن تكون له قاهرته التي تشبه باريس، وأن يتجاوَز أزمنة الفاطميين والمماليك والعثمانيين إلى زمانه، لكنه أدرك، أو ربما وجد من يستدرك عليه، أنّ القاهرة أكبر منه ومن سابقيه، وأنّه لا قاهرة لمن لا تاريخ له، فالقاهرة والتاريخ صُنوان، وجها عملةٍ واحدة، فما كان منه إلا أن جاء بصاحب الخطط، علي مبارك، مؤرّخ العمران ومهندسها. مؤرّخ يحفظ التاريخ عن ظهر قلب، ومهندس يعلم ما يقتضيه العمران. وتحت إدارة مبارك، عمل المهندسون "الخواجات"، وكانت الأولوية في العمل للمهندس الذي قضى وقتاً طويلاً في القاهرة. عزفت الأوركسترا مقطوعة القاهرة الخديويّة، التي كتب "نوطتها" علي مبارك، فجاءت أنغامها شرقية مصرية قاهرية، وإن كان العازفون غربيين. جاءت القاهرة الخديويّة امتداداً حضارياً لقاهرة المعزّ وعصورها، وحلقةً جديدةً من حلقات العاصمة الفرعونية "أون"، والعواصم العربية: الفسطاط، ومدينة العسكر، والقطائع، وحاضنة تواريخها؛ القاهرة.
هل الاحتفاء بالقيمة خصيصة مصرية؟ لا بالتأكيد، إنما إنسانية، ولا نبالغ إذا قلنا فطرية، فلا إنسانَ طبيعياً، غير مشوّه، لا يبحث عن قيمة في تاريخه تسند وجودَه، وتشحن طاقته، وتلهمه المستقبل، ولو لم يجد قيمته لاخترعها أو سرقها من غيره، كما يسرق الجائع ليأكل، فالقيمة من الحاجات الأساسية، وليست ترفاً أو رفاهية أو كلامَ "أفنديات". ثمّة بلاد متقدّمة تضع في متاحفها أحجاراً صماء، لا صوت لها، ولا صورة، ولا شخصية، مجرد حجر، بلا معالجة فنّية تمنحه قيمةً في ذاته، ورغم ذلك يُحتفى به، وتخبرك المادة التعريفية أنّ هذا الحجر عمرُه خمسمائة عام، ولذلك فهو قيمة، قِدَمُه المجرّد قيمةً تستحق الاحتفاء، فيما بلد مثل مصر، هنا والآن، لديها مدن تتجاوز أعمارها الألف عام، وبدلاً من معاملتها كمتحف مفتوح، يجري تجريفها، تجريف مبانيها، من أجل "كوبري"، وتجريف معانيها من أجل لا شيء أو بالأحرى من أجل التغطية على لا شيء.
من هنا تأتي العاصمة الإدارية الجديدة، في مصر، امتداداً سرطانياً للوقت لا للمكان، للحظة لا للتواريخ، نتيجة بديهية لما قبلها من سياسات، وصورة مكبّرة لما حولها من ارتجالات، فلا هي عاصمة حكم معبّرة عن شخصية البلد التي تحكُمه، ولا هي محاولة للإضافة والمراكمة والامتداد الحضاري المشروع. والمدهش أنّها عاجزة أيضاً عن منافسة غيرها من إكراهات الوقت و"اللقطة"، فهي لا ترقى إلى مقارنتها بـ "تفريعة" قناة السويس التي كلّفت ما يقرب من أربعة مليارات دولار، وجرى تسميتها، "بروباغندا" قناة السويس الجديدة. ومع فشلها وتراجع إيراداتها، جرى الاعتراف بأنها مشروعٌ لـ"رفع" الروح المعنوية للمصريين، (ربما إلى باريها)، فالعاصمة المتخيّلة ليست فرْعاً من أصل، إنما نقطةٌ في فراغ، "كومباوند" وسط صحراء، وسمّوه عاصمة.