مصر أحمد عدويّة

31 ديسمبر 2024
+ الخط -

كنت أشاهد مقطع فيديو لمدير "سكاي نيوز" الإماراتية، نديم قطيش، يفلت فيه لسانه قائلاً إن العرب لن يسمحوا بتكرار مصر محمد مرسي. لا تغيير إذاً في أيّ بلد عربي (وأوّلهم مصر) من طريق ثورات ديمقراطية وصناديق انتخابية، واختيارات شعبية، فالشعوب لا تعرف مصلحتها، ولو عرفتها فهي ضدّ مصالح أصحاب سلطة الأمر الواقع. ومن ثم، لا مرسي، ولا غيره. وما مرسي سوى المرشّح الذي يسهُل تشويهه، لكن لو كان محمد البرادعي أو حمدين صبّاحي أو غيرهما، فلن تعدم هذه الدولة أو تلك وسيلة تشويههما؛ عميل؛ علماني؛ أميركاني؛ إيراني. فالتهم كثيرة، وأصناف نديم قطيش أكثر.
سمعت مقطع الفيديو أكثر من مرّة، ربّما لأنني لا أصدّق أنه جاء يوم تقرّر فيه الإمارات مصير مصر. بعد ساعات، نُشر خبر وفاة أحمد عدويّة، وسط الحضور الأجمل لرحمات جماهيره من المصريين والعرب، النخب قبل غيرهم، والغياب الكامل والنهائي لخطابات "قطايشة" آخرين، كانوا قد قرّروا يوماً أنهم لن يسمحوا بوجود مصر أحمد عدويّة.
أرجوك لا تغضب من هذا الربط، ولا تظنّه تعسّفياً، فالسياسة حاضرة حين نستبعدها، ربّما أكثر من حضورها بمزاجنا. خذ مثلاً: جاء عدويّة من المنيا إلى القاهرة ليغنّي، كان ذلك بعد النكسة (1967) بعامين، فرضت السياسة نفسها على الشاب (24 عاماً في حينه)، وجاءت اختياراته معبّرة عن وعي "ابن البلد" الشعبي لهزيمة بلاده، ربّاه أبوه على شدو شعراء الربابة في المقاهي، فتشبّع وجدانُه بسير الفوارس عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي والزناتي خليفة، وغيرهم. بحث عدويّة عن فوارس آخرين ليغنّي لهم، فوجدهم قد هُزِموا. غنّى لفرسان الحياة اليومية، وأساطيرها، الكركشنجي، والميكانيكي، وسائق التاكسي. غنّى لهم وبهم، بوعيهم وبذوقهم وبأسلوبهم، من دون أن يتجاوز الشرط الجمالي، فهو من أصحّ الأصوات العربية كما وصفه محمد عبد الوهاب.
كان زمان هزيمة، واتخذت المقاومة أشكالاً مختلفةً، منها الغناء. برز الشيخ إمام (مع أحمد فؤاد نجم)، كما برز عدويّة. حمل الأول هموم النخبة، والثاني حمل العاديين، وذلك قبل أن يقتحم كلّ منهما مساحات الآخر، ولكن بعد سنين طويلة من المكابدة. واجه كلٌّ منهما تهميش الحكومات، حكومة السلطة وحكومة الفن. اعتقل النظام نجم وإمام، فيما هاجمت سلطة الفنّ الرسمية عدويّة واعتبرته مبتذلاً، وربطت بينه وبين كلّ ما هو متردٍّ وقبيح. ومع ازدياد نجوميّته في السبعينيات، جرى الربط بينه وبين قيم الانفتاح، وتحميله مسؤولية خراب الدنيا والدين، ربّما أكثر من أنور السادات نفسه، لكنّ عدويّة كان في مكان آخر، كان على المقهى مع أبيه، ومع سِير الفوارس وشعراء الربابة. صدّق عدويّة نفسه فصدّقه الناس. رفضت الإذاعة اعتماده، ورفض اللواء محمد عبد الوهاب أوراق تجنيده، فلم يلحّن له، رغم اعترافه بصحّة صوته، وهاجمه مثقّفون يساريون، أصحاب سلطة معرفية وفنّية، كان أبرزهم صلاح عيسى، وللمفارقة إبراهيم عيسى. تخيّل إبراهيم عيسى يهاجم عدويّة لأنه مبتذل، أيتها الآلهة (بصوت يوسف وهبي). ربط المخرج محمد خان بين اسم عدويّة وقبح المدينة، في مشهد صراخ يحيى الفخراني: "جايلك يا عدويّة"، في فيلم "خرج ولم يعد". رغم ذلك كلّه (وغيره)، نجح عدويّة، وأجبر منتجي السينما على اختراع أدوار له، لجذب الجمهور الذي يُحبّ عدويّة، رغم أنف السلطوية الفنّية.
كان شجاعاً، ولم يعدم داعمين مثله، كان أبرزهم نجيب محفوظ، الذي لم يجد حرجاً في إعلان حُبّه عدويّة، كما دعمه بخبث عبد الحليم حافظ، فذهب ليسمعه، وغنّى معه "السح الدح امبو"، التي كان النقّاد يختزلون عدويّة فيها، لينالوا منه. كذلك دعمه صلاح جاهين وكتب له، وبليغ حمدي ولحّن له... وآخرون.
عاش "أبو أحمدات" الأغنية المصرية أحمد عدويّة. عاش رغم القرار الكبير بدفنه حيّاً. عاش لأن الخَلق أرادوا له الحياة، وروح الخلق بيد خالقهم، وليس بيد أعداء الحياة. كذلك ستعيش مصر التي سيختارها المصريون، رغم أنف الصغار، الذين يظنّون أن قراراتهم كبيرة.. وسنرى.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان