15 نوفمبر 2024
ظلال فهمي جدعان
لعلّ الميزة الأهم في محاضرة المفكر والباحث، فهمي جدعان، "أسئلة الحرية.. هنا.. الآن"، أمس في الدوحة، أنها أجادت في وقوعها على الجوهريّ في حزمة القضايا التي بسَطتْها، والمتصلة بمسألة الحرية. وأنها أوجزت إطلالاتِها على هذه القضايا، وبعضها عويصٌ، بكيفيّةٍ لم تخلّ بالمضامين الأساسية في مشاغل المحاضرة التي افتُتحت بها أعمال أول أيام المؤتمر السنوي الخامس للعلوم الاجتماعية والإنسانية، والذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، (بدأ أمس السبت ويختتم غداً الاثنين). كما أن الحضور استمعوا من فهمي جدعان، وهو أستاذ جامعي عتيد في الفلسفة والفكر، إلى عرض شائق ومتنوع لما هو "يسيرٌ جدا، وعسيرٌ جداً" (بتعبيره) في مسألة الحرية، بلغةٍ ليّنةٍ تُؤاخي بين البساطة والعمق بحذاقةٍ ظاهرة، فأوصلت مقاصد ما أرادته المحاضرة وصاحبها، بنجاحٍ لا يُسعف باحثين غير قليلين، تستغلق عليهم كيفيات إيصال المرسلات إلى المتلقي، ويظنون أنه ليس من مشاغل "الأكاديمية" أن تعتني بهذا الأمر.
ليست المرّة الأولى التي يكتب (ويحاضر) فيها صاحب "الطريق إلى المستقبل" عن الحرية، فقد جاء على قضيتها في الثقافة العربية الحديثة سابقاً، كما أنها ليست المرّة الأولى التي يُخصَّص لها مؤتمر أكاديمي، غير أن المحاولة التي يرومها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تعيينه "سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر" في مؤتمر مختصين في العلوم الاجتماعية، قدّموا مساهماتهم فيه بعد إخضاعها إلى تحكيم علمي، إنما تهدف، على الأرجح، إلى التشديد على الحرية، باعتبارها قيمةً إنسانيةً وقضية راهنة، مسألةً مركزيةً في الإنتاج المعرفي في الدرس الاجتماعي العربي. وأن يُختار فهمي جدعان لتدشين مؤتمرٍ في هذا الخصوص، فذلك، ربما، لأنه صاحب جهد موضع تقدير خاص في الأكاديميا العربية، وفي المؤسسة الجامعية العربية، من حيث اتصاله بقضايا الراهن العربي، وقد أنجز الباحث البارز مقارباته بشأنها، في كتاباته ومؤلفاته، بمنهجيةٍ التفتت إلى التنظيرات العربية والإسلامية والغربية، واستخلصت منها رؤىً وتصوراتٍ مركبّة، وظل في هذا كله، ليس فقط أستاذاً يطرح معرفة، وإنما صاحب تحليل فكري، ومنظور ثقافي، ينبني، ابتداءً، على وجوب نهوض الأمة، وعلى أن تتصدّر أولويات هذه الأمة قضايا الديمقراطية والتقدم والحرية. وفي الوسع أن تقع على كثيرٍ من هذا كله وغيره في "رياح العصر" و"في الخلاص النهائي"، و"المقدّس والحرية" وغيرها من كتب جدعان.
جاء أستاذنا، في محاضرته أمس، على قضايا يراها حاضرة في مبحث سؤال الحرية، ويقول إنها "تحتل منزلة الأسبقيّة"، وبسط مقارباتٍ في هذه القضايا، متفكراً ومتأملاً، غير أنه رأى "التعددية والاعتراف" ذا أهمية قصوى، وطرح "ضرورة تقديمه على الأغلبي من الموضوعات والقضايا التي يخوض فيها متفلسفة الفكر العربي المعاصر". وسمعناه يقول إن الوجوه التي جاء عليها من سؤال الحرية "تستبد اليوم بالحاضر العربي، وتُجري فيه أفاعيلها الانقلابية الكارثية، مثلما أنها تعِدّ المستقبل العربي لما يمكن أن يكون أعظم وأفدح من الأفاعيل الشاهدة". ولا يملك الناظر في هذا الحاضر العربي غير أن يُناصر فهمي جدعان، في إشارتِه الموحية هذه، وهي إذ يسدّدها فيلسوفٌ وأستاذٌ جامعي، ومشتبكٌ بفاعليةٍ مع مستجدّات الثقافة العربية، فإنها تحوز قيمة اعتبارية ثمينة. وهي، إلى أمرها هذا، تنبّه إلى دورٍ صار شديد الإلحاح والضرورة أن يبادر إليه أهل العلم والمعرفة من المشتغلين بالتدريس الجامعي والبحث الأكاديمي، بشأن المساهمة في تفكيك الحال العربي وخرابه، وبناء عمرانٍ فكريٍّ ونظريٍّ يقوم عليه، ويسترشد به أي نظر فيه.
قال فهمي جدعان ما يحسُن أن يُسمع عن الاستبداد، باعتباره نقيضاً للحرية، وهذه حقٌّ طبيعيٌّ أساسي "لا يمكن لمبدأ العدل أن ينهض في وجهه، أو أن ينكره". وقال كثيراً مما هو عميق، فأبقانا، نحن الذين استمعنا إليه، منشدّين إلى ظلال ما أوحى به، وما أوجزه، وما أراده، وهذا كله كثير .. كثير.