ضرائب محمود سعد
ليس الإعلام في مصر حرّا. هذه حقيقة لا تقبل الجدل، الرئيس نفسُه يؤكدها، حين يفصح عن نوعية الإعلام الذي يريده، مرارا، في عبارات دالّة وواضحة، ربما أشهرها: "يا بخت عبد الناصر بإعلامه"، في إشارة إلى إعلام الرئيس جمال عبد الناصر الذي يقول مؤيدوه قبل معارضيه إنه كان إعلام الصوت الواحد، والرأي الواحد، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة. هكذ يريد عبد الفتاح السيسي الإعلام في عصر السماوات المفتوحة. لم يعد التحالف بين الدولة ورجال الأعمال، ملاك القنوات الفضائية، كافيا لضمان ولاء الإعلام في الملفات الرئيسة. لم يعد الاتفاق، أو التفاهم، كافيا، بل لم تعد التبعية "المهنية" كافيةً، فالمهنية تخصم من رصيد التابع والمتبوع، لصالح المشاهد. المطلوب هو إعلام الرئيس للرئيس، فالإعلامي لا يخاطب الناس لصالح الرئيس، بل يخاطب الرئيس نفسه، فإذا رضي هذا، يكون الإعلام الوطني، وإذا لم يرض، فالذهاب إلى البيت، وليس السجن، في حد ذاته، منحة!
تعرّض الإعلامي خيري رمضان للإيقاف والسجن، يوما أو يومين، "قرص أذن"، وهو الصحافي السابق في "الأهرام"، والإعلامي السابق والحالي في التلفزيون الرسمي للدولة، وبينهما قنوات، جميعها على خطّ الدولة. فجأة وبدون مقدّمات، جلس أحدُهم أمام الشاشة، ولم ترُق له طريقة "تأييد" خيري رمضان الرئيس، أنزله من الهوا، وزجّه في زنزانة. الأمر نفسه حدث لكثيرين، من مؤيدّي الدولة، وعرّابيها. تعرّضت لميس الحديدي للإيقاف، قبل العودة المشروطة، الرئيس أولا، وثانيا، وثالثا، وأخيرا، والآن مفيدة شيحة، وسهير جودة، ناهيك عن محمود سعد، الذي توقف، لأنه لم يوافق على عقد الإذعان، وعاد بعيدا عن مناطق نفوذه الجماهيرية، في برنامج بعيد كل البعد عن السياسة، اجتماعي، تاريخي، لطيف، لكنه ذكيّ ومؤثر.
يتوقف محمود سعد أمام قبر حاكم .. أو وزير .. أو سياسي .. مات منذ ألف عام أو يزيد، يحكي حكايته، ويشير، بذكاءٍ إلى الدلالات، مرّت مرّة، ولم تمر الأخرى. توقف محمود سعد. قالوا إن السبب إنتاجي، إلا أن سعد نفسه برّأ نفسه والقناة، وترك المشاهد للاختيار الوحيد المتبقي، فلا يحتاج الأمر إلى خيال أو توقع، جلس "صاحب المزاج"، وأمر بوقف البرنامج وصاحبه. تردّدت إشاعات، ليس لها مصدر واضح، عن رصد مكالمة شخضية لمحمود سعد سمح فيها لنفسه بانتقاد الرئيس سرّا، فناله ما نال. هذه الرواية أهون بكثير من الرواية الأكثر تردّدا، مع كل إيقاف، أو منع، أو "شلوت إلى الأمام"، أن صاحب المحل يريد ذلك وكفى. من صاحب المحلّ؟ صاحب المزاج؟ من الذي يملك أن يمنح ويمنع لمجرّد أن مزاجه تعكّر؟ إجابات كثيرة، لا إجابة رسمية، وإن كانت "أسرارا يعلمها الجميع"!
ربما يفسّر ذلك ارتعاد أي إعلامي يتّصل به الرئيس، الأمر الذي وصل إلى وقوف يوسف الحسيني، على رجليه، حين سمع أن الرئيس على الهاتف، إعلامي، يتلقّى مكالمة هاتفية من "آدمي"، واقفا، إذ ربما يتعكّر مزاج "سيادة الرئيس" من جلسة الإعلامي أمام صوته. آخرون ابتلعتهم كراسيهم، ولم يقووا على صياغة جملةٍ، غير الامتنان والشكر على المكالمة، سواء كانوا إعلاميين، أو ضيوفا محظوظين، مثل السيناريست عبد الرحيم كمال، الذي أوشك أن يفقد النطق، فكيف يبدي "من أصابه الدور" رأيا، ولو كان رأيا مؤيدا وباصما بالعشرة، وهو لا يعرف على وجه الدقّة، كيف يؤيد الرئيس بطريقةٍ ترضيه، لا تعكّر مزاجه، لا يشعر معها بـ "عجز القادرين عن التمام".
ردود الأفعال، في مصر والوطن العربي، على إيقاف برنامج محمود سعد، تحديدا، تخبرك بكثيرٍ عن المشاهد الذي غاب تماما عن اهتمامات راكبي الشاشات، وتاق لأي حضور، ووجده في برنامجٍ لا يقترب من سيادة الرئيس، وكان من المفترض أن يتركه الرئيس وشأنه، ولكن هيهات، فالضريبة على الجميع. كان محمود سعد يسمع من الناس قصص نجاحهم، كفاحهم، مكابداتهم، يمنحهم نماذج للمقاومة، تشبههم، تبشّرهم، تسندهم. كان يعيد تدوير الأمل، ولكن من دون أن يدفع الضريبة المستحقة، وغير المحدّدة سلفا.